الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الشاعر‭ ‬والبلاد‭ ‬‭(‬2‭)‬

بواسطة azzaman

الشاعر‭ ‬والبلاد‭ ‬‭(‬2‭)‬

حسن‭ ‬النواب‭ ‬

 

‭ ‬إنَّ‭ ‬أقسى‭ ‬إهانةٍ‭ ‬توجَّهُ‭ ‬للإنسان‭ ‬عندما‭ ‬يجد‭ ‬نفسهُ‭ ‬مرغماً‭ ‬على‭ ‬هجران‭ ‬وطنه،‭ ‬غير‭ ‬أنَّ‭ ‬هذه‭ ‬الإهانة‭ ‬أهون‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬بطش‭ ‬بلاد‭ ‬لا‭ ‬ديدن‭ ‬لديها‭ ‬سوى‭ ‬تدمير‭ ‬حياتك،‭ ‬صحيح‭ ‬أنَّ‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬قاوم‭ ‬هذا‭ ‬البطش‭ ‬بشتى‭ ‬الوسائل‭ ‬حتى‭ ‬يبقى‭ ‬متمسِّكاً‭ ‬بأرض‭ ‬السواد،‭ ‬لكنَّ‭ ‬هؤلاء‭ ‬أعياهم‭ ‬هذا‭ ‬الصبر‭ ‬وما‭ ‬عادوا‭ ‬يتحملُّون‭ ‬أزيز‭ ‬رصاصة‭ ‬طائشة‭ ‬الآن،‭ ‬لقد‭ ‬فاض‭ ‬الحزن‭ ‬من‭ ‬أقبية‭ ‬أرواحهم‭ ‬وباتوا‭ ‬لا‭ ‬يشعرون‭ ‬بلذَّةِ‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬البلاد؛‭ ‬بينما‭ ‬ترى‭ ‬الذين‭ ‬هاجروا‭ ‬من‭ ‬الوطن‭ ‬يناضلون‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬العودة‭ ‬لأحضانه‭ ‬وهم‭ ‬يدركون‭ ‬أنَّ‭ ‬الظلم‭ ‬والإملاق‭ ‬والموت‭ ‬المجَّاني‭ ‬مازال‭ ‬ينتعش‭ ‬هناك،‭ ‬لكنَّ‭ ‬السؤال‭ ‬ظلَّ‭ ‬يلحُّ‭ ‬على‭ ‬خاطرهِ‭:‬

‭- ‬لماذا‭ ‬تركَ‭ ‬البلاد؟

إِنَّهُ‭ ‬لسؤالٍ‭ ‬صعبٍ‭ ‬وشائكٍ‭ ‬للغاية‭ ‬ويستدرجُ‭ ‬زخمَ‭ ‬طاقته‭ ‬المخزونة‭ ‬للإفصاح‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬دون‭ ‬فذلكات‭ ‬وتزويق‭ ‬أو‭ ‬زيادة‭ ‬أو‭ ‬نقصان؛‭ ‬لأنَّ‭ ‬الذكريات‭ ‬التي‭ ‬يكتبها‭ ‬الإنسان‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬التراجع‭ ‬عنها‭ ‬فيما‭ ‬بعد؛‭ ‬إذْ‭ ‬تصبحُ‭ ‬مُلك‭ ‬القارئ؛‭ ‬ولذا‭ ‬لا‭ ‬بدَّ‭ ‬أنْ‭ ‬يكون‭ ‬شجاعاً‭ ‬وصادقاً‭ ‬قبل‭ ‬التورُّط‭ ‬بتدوينها‭ ‬ويتحمَّل‭ ‬ردود‭ ‬الأفعال‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬العواقب‭ ‬وخيمة؛‭ ‬فلطالما‭ ‬ذهبت‭ ‬ذكريات‭ ‬الآخرين‭ ‬إلى‭ ‬حاويات‭ ‬المزابل‭ ‬والسبب‭ ‬معروف‭ ‬طبعاً‭. ‬لديه‭ ‬من‭ ‬الشجاعة‭ ‬وجموح‭ ‬المغامرة‭ ‬وراحة‭ ‬البال‭ ‬لكتابة‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬بلا‭ ‬رياء‭ ‬وزيف؛‭ ‬وليكثر‭ ‬أعدائه؛‭ ‬وليس‭ ‬بعيداً‭ ‬أنْ‭ ‬يحزُّ‭ ‬عنقه‭ ‬في‭ ‬ساعة‭ ‬ظلمة‭ ‬وغدر؛‭ ‬ولكن‭ ‬ليس‭ ‬أمامه‭ ‬سوى‭ ‬قول‭ ‬الحقيقة‭ ‬كما‭ ‬أنجبتهُ‭ ‬أمي‭ ‬التميمية‭ ‬ساعة‭ ‬ظهيرة‭ ‬في‭ ‬قضاء‭ ‬المناذرة؛‭ ‬فربَّما‭ ‬قدِّرَ‭ ‬لهذا‭ ‬الكائن‭ ‬أنْ‭ ‬يبقى‭ ‬متمرداً‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬رمقٍ‭ ‬من‭ ‬حياته؛‭ ‬وأنَّ‭ ‬البياض‭ ‬الذي‭ ‬يحلم‭ ‬بهِ‭ ‬لنْ‭ ‬يتحقَّقْ‭ ‬إلاَّ‭ ‬بمعجزة‭ ‬كاذبة؛‭ ‬وإلاَّ‭ ‬بماذا‭ ‬يفسر‭ ‬هذا‭ ‬الاغتراب‭ ‬الروحي‭ ‬وهذه‭ ‬الوحشة‭ ‬التي‭ ‬يعيشها‭ ‬حتى‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭. ‬لنْ‭ ‬يفكّر‭ ‬هذا‭ ‬الكائن‭ ‬بعرشٍ‭ ‬يجلس‭ ‬عليه‭ ‬ذات‭ ‬يوم؛‭ ‬فتكفيه‭ ‬عروش‭ ‬أجداده‭ ‬التي‭ ‬أهملوها‭ ‬في‭ “‬لكنو‭” ‬المدينة‭ ‬الشيعية‭ ‬في‭ ‬الهند‭ ‬وجاءوا‭ ‬عراة‭ ‬إلاَّ‭ ‬من‭ ‬محبَّتهم‭ ‬للنبي‭ ‬الكريم‭ ‬وذريته‭ ‬الطاهرة؛‭ ‬تركوا‭ ‬الجاه‭ ‬هناك‭ ‬وأقبلوا‭ ‬بقوافلهم‭ ‬الزاحفة‭ ‬إلى‭ ‬أرض‭ ‬السواد‭ ‬مع‭ ‬خزائن‭ ‬من‭ ‬الذهب‭ ‬والجواهر‭ ‬النفيسة؛‭ ‬وبثمنها‭ ‬اختاروا‭ ‬منازل‭ ‬مباركة‭ ‬لإقامتهم‭ ‬في‭ ‬مدينتي‭ ‬الكاظمية‭ ‬وكربلاء؛‭ ‬وهم‭ ‬ينشدون‭ ‬الشفاعة‭ ‬من‭ ‬المراقد‭ ‬المقدَّسة‭. ‬اشتروا‭ ‬البساتين‭ ‬وقيصريات‭ ‬الحبوب‭ ‬والبقول‭ ‬لإدامة‭ ‬سيولة‭ ‬ثروتهم‭ ‬وهم‭ ‬يهبون‭ ‬الخمس‭ ‬من‭ ‬مدخَّراتهم‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬لإقامة‭ ‬مجالس‭ ‬العزاء‭ ‬ومآدب‭ ‬الطعام‭ ‬الحسيني‭ ‬وتجهيز‭ ‬مواكب‭ ‬عاشوراء‭ ‬بالهوادج‭ ‬والخيول‭ ‬والرايات‭ ‬والطبول‭ ‬والصنوج‭ ‬وسلاسل‭ ‬الحديد‭ ‬والسيوف‭ ‬وأزياء‭ ‬تمثيل‭ ‬واقعة‭ ‬الطف‭ “‬التشابيه‭” ‬في‭ ‬صبيحة‭ ‬عاشوراء‭ ‬الدامية‭. ‬وحين‭ ‬شبَّ‭ ‬هذا‭ ‬الكائن،‭ ‬اكتشف‭ ‬أنَّ‭ ‬حياته‭ ‬بأسرها‭ ‬متيَّمة‭ ‬بعالم‭ ‬الثقافة‭ ‬والأدب؛‭ ‬لمْ‭ ‬يسع‭ ‬من‭ ‬نزيف‭ ‬كتابته‭ ‬في‭ ‬الملاجئ‭ ‬والحانات‭ ‬والحدائق‭ ‬والفنادق‭ ‬المبتذلة‭ ‬أنْ‭ ‬تكون‭ ‬وسيلة‭ ‬لتسلّق‭ ‬الكراسي‭ ‬الإدارية‭ ‬أو‭ ‬تسنُّم‭ ‬منصب‭ ‬رئاسة‭ ‬التحرير‭ ‬لمجلة‭ ‬ثقافية؛‭ ‬ولم‭ ‬يتوقَّع‭ ‬أنَّهُ‭ ‬سيصبح‭ ‬ربَّ‭ ‬أسرة‭ ‬لأربعة‭ ‬أطفال‭ ‬من‭ ‬زوجة‭ ‬طيبة‭ ‬كقلب‭ ‬نخلة؛‭ ‬يشمًّ‭ ‬بهم‭ ‬رائحة‭ ‬البلاد‭ ‬ومزاراتها‭ ‬كلُّما‭ ‬عصف‭ ‬بمهجته‭ ‬الحنين؛‭ ‬وعليه‭ ‬الدفاع‭ ‬عنهم‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬شهقة‭ ‬من‭ ‬جنونه؛‭ ‬لأنَّ‭ ‬الفكرة‭ ‬التي‭ ‬باتت‭ ‬تحاصرهُ‭:‬

‭- ‬العائلة‭ ‬أولاً‭ ‬وثانياً‭ ‬وثالثاً‭ ‬ثمَّ‭ ‬الكتابة‭. ‬

وربما‭ ‬هذا‭ ‬السبب‭ ‬جعلهُ‭ ‬يتراجع‭ ‬عن‭ ‬جنونه‭ ‬وعبثه‭ ‬وتمرده؛‭ ‬وقد‭ ‬اكتشف‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة‭ ‬لذَّة‭ ‬ما‭ ‬بعدها‭ ‬إغواء‭. ‬الوطن‭ ‬لديه‭ ‬الآن‭ ‬عائلته؛‭ ‬والذي‭ ‬بوسعه‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬عائلة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أنْ‭ ‬ينسى‭ ‬البلاد‭ ‬التي‭ ‬صارت‭ ‬ويا‭ ‬للأسف‭ ‬تحتضن‭ ‬أشباه‭ ‬المثقفين‭ ‬والمتلونين،‭ ‬والذين‭ ‬يرتدون‭ ‬عشرات‭ ‬الأقنعة‭ ‬ويرشقون‭ ‬شخصك‭ ‬بنبال‭ ‬الحقد‭ ‬والكراهية‭ ‬والحسد‭ ‬حالما‭ ‬تغادر‭ ‬مجلسهم‭. ‬نعم‭ ‬أدرك‭ ‬منذ‭ ‬أمدٍ‭ ‬بعيدٍ‭ ‬والشظايا‭ ‬ورائحة‭ ‬البارود‭ ‬ترافقه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬إجازة‭ ‬أنَّ‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‭ ‬تحوَّلت‭ ‬إلى‭ ‬مجزرة؛‭ ‬أدركَ‭ ‬ذلك‭ ‬وهو‭ ‬يبصر‭ ‬بعينين‭ ‬ثملتين‭ ‬من‭ ‬رهبة‭ ‬الموت‭ ‬في‭ ‬الجبهات،‭ ‬أنَّ‭ ‬العوائل‭ ‬صارت‭ ‬ترى‭ ‬الراحل‭ ‬إلى‭ ‬غابة‭ ‬النار‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬عشرة‭ ‬آلاف‭ ‬دينار‭ ‬وسيارة؛‭ ‬ويتذكَّر‭ ‬عائلة‭ ‬بجوارهم‭ ‬كان‭ ‬ابنهم‭ ‬معتوهاً‭ ‬وقدْ‭ ‬شُحنَ‭ ‬مع‭ ‬آخرين‭ ‬إلى‭ ‬الجبهات‭ ‬وبعد‭ ‬أسابيع‭ ‬عاد‭ ‬ملفوفاً‭ ‬بالعلم،‭ ‬فزغردت‭ ‬عائلته‭ ‬ليس‭ ‬لاستشهاده؛‭ ‬إنَّما‭ ‬للمكرمة‭ ‬السخية؛‭ ‬وتظاهرت‭ ‬بالنحيب‭ ‬لتسكب‭ ‬من‭ ‬العبرات‭ ‬الزائفة‭ ‬ما‭ ‬يضاهي‭ ‬الدمع‭ ‬في‭ ‬عاشوراء؛‭ ‬فيما‭ ‬كان‭ ‬ولدهم‭ ‬المجنون‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الأمر‭ ‬يفترشُ‭ ‬حصى‭ ‬الشارع‭ ‬سريراً‭ ‬لهُ‭ ‬في‭ ‬قيظ‭ ‬الصيف‭ ‬وزمهرير‭ ‬الشتاء‭ ‬قبل‭ ‬أنْ‭ ‬ينحر‭ ‬في‭ ‬الحرب‭. ‬لقد‭ ‬تناستهُ‭ ‬العائلة‭ ‬بعد‭ ‬أسبوع؛‭ ‬إذْ‭ ‬انشغلتْ‭ ‬بتوزيع‭ ‬غنيمة‭ ‬موته؛‭ ‬أمَّا‭ ‬السيارة‭ ‬فصارت‭ ‬من‭ ‬نصيب‭ ‬أحد‭ ‬رجال‭ ‬الأمن‭ ‬الذي‭ ‬سارع‭ ‬للاقتران‭ ‬بأخته‭ ‬الدميمة؛‭ ‬ذلك‭ ‬المشهد‭ ‬مازال‭ ‬عالقاً‭ ‬في‭ ‬ذاكرته‭ ‬مثل‭ ‬نافورة‭ ‬جمر‭ ‬في‭ ‬مهجره‭ ‬البعيد‭.‬

 


مشاهدات 476
الكاتب حسن‭ ‬النواب‭ ‬
أضيف 2024/02/05 - 8:41 PM
آخر تحديث 2025/01/30 - 7:31 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 104 الشهر 15035 الكلي 10295000
الوقت الآن
الجمعة 2025/1/31 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير