حسن النواب
إنَّ أقسى إهانةٍ توجَّهُ للإنسان عندما يجد نفسهُ مرغماً على هجران وطنه، غير أنَّ هذه الإهانة أهون بكثير من بطش بلاد لا ديدن لديها سوى تدمير حياتك، صحيح أنَّ هناك من قاوم هذا البطش بشتى الوسائل حتى يبقى متمسِّكاً بأرض السواد، لكنَّ هؤلاء أعياهم هذا الصبر وما عادوا يتحملُّون أزيز رصاصة طائشة الآن، لقد فاض الحزن من أقبية أرواحهم وباتوا لا يشعرون بلذَّةِ العيش في البلاد؛ بينما ترى الذين هاجروا من الوطن يناضلون من أجل العودة لأحضانه وهم يدركون أنَّ الظلم والإملاق والموت المجَّاني مازال ينتعش هناك، لكنَّ السؤال ظلَّ يلحُّ على خاطرهِ:
- لماذا تركَ البلاد؟
إِنَّهُ لسؤالٍ صعبٍ وشائكٍ للغاية ويستدرجُ زخمَ طاقته المخزونة للإفصاح عن كل شيء دون فذلكات وتزويق أو زيادة أو نقصان؛ لأنَّ الذكريات التي يكتبها الإنسان لا يمكن التراجع عنها فيما بعد؛ إذْ تصبحُ مُلك القارئ؛ ولذا لا بدَّ أنْ يكون شجاعاً وصادقاً قبل التورُّط بتدوينها ويتحمَّل ردود الأفعال مهما كانت العواقب وخيمة؛ فلطالما ذهبت ذكريات الآخرين إلى حاويات المزابل والسبب معروف طبعاً. لديه من الشجاعة وجموح المغامرة وراحة البال لكتابة كل شيء بلا رياء وزيف؛ وليكثر أعدائه؛ وليس بعيداً أنْ يحزُّ عنقه في ساعة ظلمة وغدر؛ ولكن ليس أمامه سوى قول الحقيقة كما أنجبتهُ أمي التميمية ساعة ظهيرة في قضاء المناذرة؛ فربَّما قدِّرَ لهذا الكائن أنْ يبقى متمرداً حتى آخر رمقٍ من حياته؛ وأنَّ البياض الذي يحلم بهِ لنْ يتحقَّقْ إلاَّ بمعجزة كاذبة؛ وإلاَّ بماذا يفسر هذا الاغتراب الروحي وهذه الوحشة التي يعيشها حتى هذه اللحظة. لنْ يفكّر هذا الكائن بعرشٍ يجلس عليه ذات يوم؛ فتكفيه عروش أجداده التي أهملوها في “لكنو” المدينة الشيعية في الهند وجاءوا عراة إلاَّ من محبَّتهم للنبي الكريم وذريته الطاهرة؛ تركوا الجاه هناك وأقبلوا بقوافلهم الزاحفة إلى أرض السواد مع خزائن من الذهب والجواهر النفيسة؛ وبثمنها اختاروا منازل مباركة لإقامتهم في مدينتي الكاظمية وكربلاء؛ وهم ينشدون الشفاعة من المراقد المقدَّسة. اشتروا البساتين وقيصريات الحبوب والبقول لإدامة سيولة ثروتهم وهم يهبون الخمس من مدخَّراتهم في كل عام لإقامة مجالس العزاء ومآدب الطعام الحسيني وتجهيز مواكب عاشوراء بالهوادج والخيول والرايات والطبول والصنوج وسلاسل الحديد والسيوف وأزياء تمثيل واقعة الطف “التشابيه” في صبيحة عاشوراء الدامية. وحين شبَّ هذا الكائن، اكتشف أنَّ حياته بأسرها متيَّمة بعالم الثقافة والأدب؛ لمْ يسع من نزيف كتابته في الملاجئ والحانات والحدائق والفنادق المبتذلة أنْ تكون وسيلة لتسلّق الكراسي الإدارية أو تسنُّم منصب رئاسة التحرير لمجلة ثقافية؛ ولم يتوقَّع أنَّهُ سيصبح ربَّ أسرة لأربعة أطفال من زوجة طيبة كقلب نخلة؛ يشمًّ بهم رائحة البلاد ومزاراتها كلُّما عصف بمهجته الحنين؛ وعليه الدفاع عنهم حتى آخر شهقة من جنونه؛ لأنَّ الفكرة التي باتت تحاصرهُ:
- العائلة أولاً وثانياً وثالثاً ثمَّ الكتابة.
وربما هذا السبب جعلهُ يتراجع عن جنونه وعبثه وتمرده؛ وقد اكتشف في هذه الفكرة لذَّة ما بعدها إغواء. الوطن لديه الآن عائلته؛ والذي بوسعه الحفاظ على عائلة لا يمكن أنْ ينسى البلاد التي صارت ويا للأسف تحتضن أشباه المثقفين والمتلونين، والذين يرتدون عشرات الأقنعة ويرشقون شخصك بنبال الحقد والكراهية والحسد حالما تغادر مجلسهم. نعم أدرك منذ أمدٍ بعيدٍ والشظايا ورائحة البارود ترافقه في كل إجازة أنَّ هذه البلاد تحوَّلت إلى مجزرة؛ أدركَ ذلك وهو يبصر بعينين ثملتين من رهبة الموت في الجبهات، أنَّ العوائل صارت ترى الراحل إلى غابة النار عبارة عن عشرة آلاف دينار وسيارة؛ ويتذكَّر عائلة بجوارهم كان ابنهم معتوهاً وقدْ شُحنَ مع آخرين إلى الجبهات وبعد أسابيع عاد ملفوفاً بالعلم، فزغردت عائلته ليس لاستشهاده؛ إنَّما للمكرمة السخية؛ وتظاهرت بالنحيب لتسكب من العبرات الزائفة ما يضاهي الدمع في عاشوراء؛ فيما كان ولدهم المجنون في واقع الأمر يفترشُ حصى الشارع سريراً لهُ في قيظ الصيف وزمهرير الشتاء قبل أنْ ينحر في الحرب. لقد تناستهُ العائلة بعد أسبوع؛ إذْ انشغلتْ بتوزيع غنيمة موته؛ أمَّا السيارة فصارت من نصيب أحد رجال الأمن الذي سارع للاقتران بأخته الدميمة؛ ذلك المشهد مازال عالقاً في ذاكرته مثل نافورة جمر في مهجره البعيد.