الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الشاعر‭ ‬والبلاد ‬31 ‬

بواسطة azzaman

الشاعر‭ ‬والبلاد ‬31 ‬

حسن‭ ‬النواب

 

كل‭ ‬خطوةٍ‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬كانت‭ ‬لها‭ ‬حكاية؛‭ ‬ولابدًَ‭ ‬من‭ ‬تدوينها‭ ‬حتى‭ ‬يعرف‭ ‬الناس‭ ‬فداحة‭ ‬معاناته‭ ‬وعذاباته‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬إذْ‭ ‬كان‭ ‬الأسى‭ ‬يستغيث‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬البلاد؛‭ ‬وبينما‭ ‬كان‭ ‬يتناول‭ ‬فطوره‭ ‬مع‭ ‬زوجته‭ ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬رغيف‭ ‬أسمر‭ ‬مع‭ ‬قدح‭ ‬شاي؛‭ ‬نهض‭ ‬كالملدوغ‭ ‬صارخاً‭:‬

‭- ‬أكاد‭ ‬اختنق،‭ ‬ما‭ ‬عدت‭ ‬اتحمل‭ ‬البقاء‭ ‬في‭ ‬البلاد‭.‬

ترك‭ ‬المنزل‭ ‬هائماً‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬حتى‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬متنزه‭ ‬شبه‭ ‬مهجور‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬المدينة،‭ ‬جلس‭ ‬على‭ ‬مصطبة‭ ‬غطاها‭ ‬التراب؛‭ ‬ينفث‭ ‬دخان‭ ‬سيجارته‭ ‬ويمعنُ‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬ورقة‭ ‬الدعوة‭ ‬التي‭ ‬وصلت‭ ‬لهُ‭ ‬للمرة‭ ‬الثانية‭ ‬من‭ ‬رابطة‭ ‬الكتاب‭ ‬الأردنيين؛‭ ‬فيما‭ ‬كانت‭ ‬ذاكرته‭ ‬تزيل‭ ‬الرماد‭ ‬عن‭ ‬أوجاع‭ ‬ومسرات‭ ‬ماضية،‭ ‬تذكر‭ ‬مبردة‭ ‬الهواء‭ ‬التي‭ ‬أجبر‭ ‬على‭ ‬بيعها‭ ‬حتى‭ ‬يدفع‭ ‬بثمنها‭ ‬أجور‭ ‬عملية‭ ‬جراحية‭ ‬لزوجته‭. ‬لقد‭ ‬تخلَّى‭ ‬عنهُ‭ ‬حتى‭ ‬الأهل‭ ‬بسبب‭ ‬ظروف‭ ‬الحصار‭ ‬القاسية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تنهش‭ ‬وتفتك‭ ‬بجميع‭ ‬الناس،‭ ‬بينما‭ ‬أنقذهُ‭ ‬ثمن‭ ‬تلك‭ ‬المبرِّدة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬المحنة؛‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬اشتراها‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬جندياً‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬مع‭ ‬إيران‭ ‬وها‭ ‬هي‭ ‬تسعفه‭ ‬بإنقاذ‭ ‬زوجته‭ ‬في‭ ‬محنةٍ‭ ‬حرجةٍ،‭ ‬وتذكّر‭ ‬تجربته‭ ‬المريرة‭ ‬بتربية‭ ‬الدواجن‭ ‬فوق‭ ‬سطح‭ ‬المنزل،‭ ‬وكيف‭ ‬كان‭ ‬يهبط‭ ‬إلى‭ ‬سوق‭ ‬المدينة‭ ‬كل‭ ‬غروب‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬ورق‭ ‬البصل‭ ‬الأخضر‭ ‬بأكوام‭ ‬قمامة‭ ‬الأسواق‭ ‬الشعبية،‭ ‬ليعود‭ ‬حاملاً‭ ‬ما‭ ‬غنمه‭ ‬بكيس‭ ‬من‭ ‬النايلون‭ ‬الأسود،‭ ‬ليكون‭ ‬علفاً‭ ‬لدجاجاته‭ ‬الخمس‭. ‬ذات‭ ‬ليلة‭ ‬هبط‭ ‬متأخراً‭ ‬إلى‭ ‬سوق‭ ‬المدينة‭ ‬وقد‭ ‬أغلقت‭ ‬الحوانيت‭ ‬أبوابها؛‭ ‬فيما‭ ‬كان‭ ‬المطر‭ ‬يهطل‭ ‬بغزارة؛‭ ‬وبينما‭ ‬كان‭ ‬يحشر‭ ‬أوراق‭ ‬البصل‭ ‬الأخضر‭ ‬في‭ ‬كيس‭ ‬نفايات؛‭ ‬طوَّقهُ‭ ‬أربعة‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬الأمن؛‭ ‬طلب‭ ‬أحدهم‭ ‬هويته،‭ ‬وبسبب‭ ‬ارتباكه‭ ‬استغرق‭ ‬الأمر‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬دقيقة‭ ‬حتى‭ ‬أخرج‭ ‬من‭ ‬جيبه‭ ‬ما‭ ‬طلب‭ ‬منه،‭ ‬فيما‭ ‬كان‭ ‬جسده‭ ‬كحقل‭ ‬بصل‭ ‬تفوح‭ ‬منه‭ ‬رائحة‭ ‬حريفة‭ ‬أزعجتهم‭. ‬تمعَّن‭ ‬رجل‭ ‬الأمن‭ ‬لوقتٍ‭ ‬طويلٍ‭ ‬في‭ ‬هويته‭ ‬الصادرة‭ ‬من‭ ‬اتحاد‭ ‬الأدباء؛‭ ‬جعل‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬يرتاب‭ ‬وأنَّ‭ ‬مكروهاً‭ ‬ينتظره‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذئاب‭ ‬الذين‭ ‬يتطاير‭ ‬من‭ ‬عيونهم‭ ‬الشرر؛‭ ‬حتى‭ ‬فتح‭ ‬رجل‭ ‬الأمن‭ ‬فمه‭ ‬ليسألهُ‭ ‬باحتقار‭:‬

‭- ‬ماذا‭ ‬تفعل‭ ‬بأوراق‭ ‬البصل؟

‭- ‬علف‭ ‬لدجاجاتي‭.‬

تعالتْ‭ ‬ضحكاتهم‭ ‬باستهتار؛‭ ‬كأنها‭ ‬نبالٌ‭ ‬خرمتْ‭ ‬شغاف‭ ‬قلبه‭. ‬عاد‭ ‬رجل‭ ‬الأمن‭ ‬متهكماً‭:‬

‭- ‬شاعر‭ ‬وتربي‭ ‬الدجاج‭.‬

أردف‭ ‬آخر‭ ‬ليوغل‭ ‬بسخريته‭ ‬متسائلاً‭ ‬بخبث‭:‬

‭- ‬كل‭ ‬قصائدك‭ ‬التي‭ ‬تكتبها‭ ‬عن‭ ‬البصل‭ ‬والدجاج؛‭ ‬أليس‭ ‬كذلك؟

هنا‭ ‬أجابهم‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬ساخطاً‭:‬

‭- ‬اللعنة‭ ‬على‭ ‬الجوع‭ ‬الذي‭ ‬دعاكم‭ ‬تسخرون‭ ‬مني‭.‬

لبثوا‭ ‬صامتين‭ ‬لبرهة‭ ‬وانصرفوا‭ ‬عنهُ‭ ‬يقهقهون‭ ‬بعد‭ ‬أنْ‭ ‬أعاد‭ ‬له‭ ‬رجل‭ ‬الأمن‭ ‬هوية‭ ‬اتحاد‭ ‬الأدباء‭. ‬دسَّها‭ ‬في‭ ‬جيبة‭ ‬وحمل‭ ‬كيس‭ ‬الورق‭ ‬البصل‭ ‬الأخضر‭ ‬على‭ ‬ظهره‭ ‬والدمع‭ ‬يشتعل‭ ‬في‭ ‬عينيه‭. ‬كان‭ ‬يجمع‭ ‬بيض‭ ‬تلك‭ ‬الدجاجات‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬كل‭ ‬أسبوع‭ ‬ويبيعه‭ ‬على‭ ‬حانوت‭ ‬قريب‭ ‬من‭ ‬بيتهم؛‭ ‬وبثمنه‭ ‬يشتري‭ ‬قوتاً‭ ‬لعائلته‭ ‬وكثيراً‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬حفنة‭ ‬من‭ ‬العدس،‭ ‬كان‭ ‬صاحب‭ ‬الحانوت‭ ‬ينغزهُ‭ ‬بشماتة‭:‬

‭- ‬أقرانك‭ ‬الشعراء‭ ‬ينعمونَ‭ ‬بمكارم‭ ‬السيد‭ ‬الرئيس؛‭ ‬وأنت‭ ‬تربي‭ ‬الدجاج‭. ‬

فيلوذ‭ ‬بصمت‭ ‬مرير‭ ‬مؤجلاً‭ ‬الجواب؛‭ ‬وتذكر‭ ‬كيف‭ ‬توحَّمتْ‭ ‬زوجته‭ ‬بحملها‭ ‬البكر‭ ‬وتشهَّت‭ ‬رمانة‭ ‬تأكلها،‭ ‬ولما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬حينها‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬سوى‭ ‬خمسة‭ ‬دنانير‭ ‬في‭ ‬جيبه،‭ ‬وقف‭ ‬محتارا‭ ‬والخجل‭ ‬يكبله‭ ‬أمام‭ ‬حانوت‭ ‬يبيع‭ ‬الفوانيس‭ ‬إلى‭ ‬جنب‭ ‬فاكهة‭ ‬محلية‭ ‬ومنها‭ ‬الرمان،‭ ‬سألهُ‭ ‬منكسراً‭:‬

‭- ‬كم‭ ‬سعر‭ ‬كيلو‭ ‬الرمَّان؟

حين‭ ‬أجابهُ‭ ‬البائع‭ ‬انكمش‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬وغزاهُ‭ ‬الإحباط؛‭ ‬كان‭ ‬سعر‭ ‬كيلو‭ ‬الرمان‭ ‬في‭ ‬حينها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مئة‭ ‬دينار،‭ ‬لكنَّهُ‭ ‬كان‭ ‬عازماً‭ ‬العودة‭ ‬لزوجته‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬برمانة‭ ‬واحدة،‭ ‬خشية‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬الوحم‭ ‬التي‭ ‬ربما‭ ‬تشوّه‭ ‬شكل‭ ‬الجنين‭ ‬في‭ ‬بطنها،‭ ‬وحين‭ ‬استدار‭ ‬البائع‭ ‬إلى‭ ‬الخلف‭ ‬لبرهة‭ ‬انتشل‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬أكبر‭ ‬رمانة‭ ‬ودفنها‭ ‬في‭ ‬جيبه،‭ ‬وحتى‭ ‬يطرد‭ ‬شبهة‭ ‬السرقة‭ ‬عنه‭: ‬

‭- ‬يا‭ ‬عم،‭ ‬أما‭ ‬منحتني‭ ‬رمانة‭ ‬واحدة‭ ‬بخمسة‭ ‬دنانير‭.‬

‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬المبلغ‭ ‬المتواضع‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يملكه؛‭ ‬فوجئ‭ ‬باستجابة‭ ‬البائع‭ ‬لرغبته‭ ‬قائلاً‭: ‬

‭- ‬رمانة‭ ‬واحدة‭ ‬فقط‭.‬

ارتبك‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬حين‭ ‬أعطاهُ‭ ‬الخمسة‭ ‬دنانير‭ ‬وابتعد‭ ‬عنه؛‭ ‬فيما‭ ‬لبث‭ ‬بائع‭ ‬الفوانيس‭ ‬والفاكهة‭ ‬يلاحق‭ ‬خطواته‭ ‬وسمع‭ ‬صوته‭ ‬يناديه‭:‬

‭- ‬أعطيتني‭ ‬المبلغ‭ ‬ولم‭ ‬تأخذ‭ ‬الرمانة‭.‬

أخرج‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬الرمانة‭ ‬الكبيرة‭ ‬من‭ ‬جيبه‭ ‬ثم‭ ‬قال‭ ‬للبائع‭ ‬ناصحاً‭:‬

‭- ‬أشعل‭ ‬فوانيسك‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يسرقك‭ ‬غيري‭.‬


مشاهدات 92
الكاتب حسن‭ ‬النواب
أضيف 2024/10/14 - 3:32 PM
آخر تحديث 2024/10/16 - 2:50 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 335 الشهر 6722 الكلي 10036445
الوقت الآن
الأربعاء 2024/10/16 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير