كل خطوةٍ في حياة صديق الغجري كانت لها حكاية؛ ولابدًَ من تدوينها حتى يعرف الناس فداحة معاناته وعذاباته في ذلك الوقت، إذْ كان الأسى يستغيث في شوارع البلاد؛ وبينما كان يتناول فطوره مع زوجته والذي كان عبارة عن رغيف أسمر مع قدح شاي؛ نهض كالملدوغ صارخاً:
- أكاد اختنق، ما عدت اتحمل البقاء في البلاد.
ترك المنزل هائماً على وجهه حتى وصل إلى متنزه شبه مهجور في قلب المدينة، جلس على مصطبة غطاها التراب؛ ينفث دخان سيجارته ويمعنُ النظر في ورقة الدعوة التي وصلت لهُ للمرة الثانية من رابطة الكتاب الأردنيين؛ فيما كانت ذاكرته تزيل الرماد عن أوجاع ومسرات ماضية، تذكر مبردة الهواء التي أجبر على بيعها حتى يدفع بثمنها أجور عملية جراحية لزوجته. لقد تخلَّى عنهُ حتى الأهل بسبب ظروف الحصار القاسية التي كانت تنهش وتفتك بجميع الناس، بينما أنقذهُ ثمن تلك المبرِّدة من تلك المحنة؛ كان قد اشتراها عندما كنت جندياً في الحرب مع إيران وها هي تسعفه بإنقاذ زوجته في محنةٍ حرجةٍ، وتذكّر تجربته المريرة بتربية الدواجن فوق سطح المنزل، وكيف كان يهبط إلى سوق المدينة كل غروب بحثاً عن ورق البصل الأخضر بأكوام قمامة الأسواق الشعبية، ليعود حاملاً ما غنمه بكيس من النايلون الأسود، ليكون علفاً لدجاجاته الخمس. ذات ليلة هبط متأخراً إلى سوق المدينة وقد أغلقت الحوانيت أبوابها؛ فيما كان المطر يهطل بغزارة؛ وبينما كان يحشر أوراق البصل الأخضر في كيس نفايات؛ طوَّقهُ أربعة من رجال الأمن؛ طلب أحدهم هويته، وبسبب ارتباكه استغرق الأمر أكثر من دقيقة حتى أخرج من جيبه ما طلب منه، فيما كان جسده كحقل بصل تفوح منه رائحة حريفة أزعجتهم. تمعَّن رجل الأمن لوقتٍ طويلٍ في هويته الصادرة من اتحاد الأدباء؛ جعل صديق الغجري يرتاب وأنَّ مكروهاً ينتظره من هؤلاء الذئاب الذين يتطاير من عيونهم الشرر؛ حتى فتح رجل الأمن فمه ليسألهُ باحتقار:
- ماذا تفعل بأوراق البصل؟
- علف لدجاجاتي.
تعالتْ ضحكاتهم باستهتار؛ كأنها نبالٌ خرمتْ شغاف قلبه. عاد رجل الأمن متهكماً:
- شاعر وتربي الدجاج.
أردف آخر ليوغل بسخريته متسائلاً بخبث:
- كل قصائدك التي تكتبها عن البصل والدجاج؛ أليس كذلك؟
هنا أجابهم صديق الغجري ساخطاً:
- اللعنة على الجوع الذي دعاكم تسخرون مني.
لبثوا صامتين لبرهة وانصرفوا عنهُ يقهقهون بعد أنْ أعاد له رجل الأمن هوية اتحاد الأدباء. دسَّها في جيبة وحمل كيس الورق البصل الأخضر على ظهره والدمع يشتعل في عينيه. كان يجمع بيض تلك الدجاجات في نهاية كل أسبوع ويبيعه على حانوت قريب من بيتهم؛ وبثمنه يشتري قوتاً لعائلته وكثيراً ما يكون حفنة من العدس، كان صاحب الحانوت ينغزهُ بشماتة:
- أقرانك الشعراء ينعمونَ بمكارم السيد الرئيس؛ وأنت تربي الدجاج.
فيلوذ بصمت مرير مؤجلاً الجواب؛ وتذكر كيف توحَّمتْ زوجته بحملها البكر وتشهَّت رمانة تأكلها، ولما كان في حينها لا يملك سوى خمسة دنانير في جيبه، وقف محتارا والخجل يكبله أمام حانوت يبيع الفوانيس إلى جنب فاكهة محلية ومنها الرمان، سألهُ منكسراً:
- كم سعر كيلو الرمَّان؟
حين أجابهُ البائع انكمش على نفسه وغزاهُ الإحباط؛ كان سعر كيلو الرمان في حينها أكثر من مئة دينار، لكنَّهُ كان عازماً العودة لزوجته حتى ولو برمانة واحدة، خشية من آثار الوحم التي ربما تشوّه شكل الجنين في بطنها، وحين استدار البائع إلى الخلف لبرهة انتشل صديق الغجري أكبر رمانة ودفنها في جيبه، وحتى يطرد شبهة السرقة عنه:
- يا عم، أما منحتني رمانة واحدة بخمسة دنانير.
كان ذلك المبلغ المتواضع كل ما يملكه؛ فوجئ باستجابة البائع لرغبته قائلاً:
- رمانة واحدة فقط.
ارتبك صديق الغجري حين أعطاهُ الخمسة دنانير وابتعد عنه؛ فيما لبث بائع الفوانيس والفاكهة يلاحق خطواته وسمع صوته يناديه:
- أعطيتني المبلغ ولم تأخذ الرمانة.
أخرج صديق الغجري الرمانة الكبيرة من جيبه ثم قال للبائع ناصحاً:
- أشعل فوانيسك حتى لا يسرقك غيري.