في صيف عام 2018، دوّى في العالم خبر لم يكن مجرد حادثة بيولوجية، بل مأساة إنسانية بلغة البحر. ففي مياه Puget Sound قبالة سواحل واشنطن بالولايات المتحدة، شوهدت أنثى من حيتان الأوركا تُعرف بالرمز J35، ويسمّيها الباحثون “تاهلكواه” (Tahlequah)، وهي تحمل صغيرها الميت على سطح الماء.
المشهد لم يكن عابرًا. سبعة عشر يومًا كاملة، قطعت خلالها ما يقارب 1,600 كيلومتر، ظلت تاهلكواه ترفع جسد صغيرها بأنفها أو توازن جسده على رأسها، ثم تغوص تحته لتعيده إلى السطح كلما حاول أن يبتلعه العمق. لم يكن الأمر تدريبًا ولا سلوكًا غريزيًا مكررًا. كان ذلك حزنًا صافياً، ورفضًا مريرًا لفكرة الفقدان.
مركز أبحاث الحيتان (Center for Whale Research) بقيادة كين بالومار (Ken Balcomb) أطلق على هذه الملحمة اسم “رحلة الحزن” (The Mourning Tour). لم ينجح العلم في تفسيرها بالاعتياد أو البقاء، لأن ما فعلته هذه الأم كان أبعد من حدود البقاء. لقد كان طقسًا جنائزيًا في صمت المحيط.
الحيتان القاتلة، مثل البشر، تعيش في مجموعات مترابطة، يعتني أفرادها ببعضهم، يتقاسمون الطعام، ويتشاركون أعباء تربية الصغار. وعندما يفقد القطيع أحد أفراده، يهبّ الجميع ليحملوا الغياب معًا.
تاهلكواه لم تكن مجرد حوتة فقدت صغيرًا، بل معلمة صامتة للعالم. لقد أظهرت أن الحزن ليس حكرًا على الإنسان، وأن الحب لا يتوقف عند حدود الموت. ما فعلته لم يكن ضعفًا، بل شهادة على قوة رابطةٍ حقيقية لم تنقطع برحيل الجسد.
وفي النهاية، وبعد سبعة عشر يومًا من العناد المؤلم، تركت صغيرها يعود إلى الأعماق. لكنها تركت للبشر درسًا خالدًا: أن محبة الأم لا تحتاج لغة لتُفهم، وأن صمت البحر قادر على أن يقول أكثر مما تقوله الكلمات.