الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
من حفرة الزفت الى حفرة السياسة ابوك الوزير 

بواسطة azzaman

من حفرة الزفت الى حفرة السياسة ابوك الوزير 

أحمد جاسم ألزبيدي

 

طفولة من تراب وضحك

في ستينيات القرن الماضي، كانت مدينتنا الصغيرة تشبه بقية مدن العراق، تمشي نحو التمدّن بخطوات متعثّرة على أرضٍ من الغبار.

الطرق تُشقّ، والرولات تزأر، والشفلات تبلع التراب كما تبلع الوعود الانتخابية اليوم، ونحن الصبية نعدّ كل ذلك مهرجاناً للفرح.

اللعب بالحصى، نحت الطيور من حجر الكلس الأبيض، صيد العصافير بالمصائد اليدوية… كانت تلك ألعابنا اليومية وطقوس طفولتنا قبل أن يخترع  البلي ستيشن والايباد .

 

اختبار البطولة في حفرة الزفت

 

في أحد الفروع القريبة من شارعنا، حفر عمال البلدية حفرة كبيرة ملؤها  بالزفت الساخن . كانت مهمتها رش الزفت قبل التبليط الشارع، لكنها تحوّلت سريعاً إلى ميدان بطولة للصبية.

وكعادتنا، ظهر بيننا من أراد أن يثبت أنه “أشجع من في الحارة”. عندها جاء صوت أحد المشاغبين، قائلاً بذكاء خبيث:

“إذا أنت بطل حقيقي، ذب نفسك  بالحفرة و أبوك الوزير؟”-

وحين تردد الصبي المسكين، ارتقى اللقب فوراً:

لا؟ أبوك الزعيم؟لا  أبوك الملك؟!"”-

 

لم يحتمل الإغراء وتصور انه ابن الملك ، فقفز بكل حماسة في الحفرة… وما هي إلا لحظات حتى صار يصيح كالدجاجة في قدرٍ يغلي!

اسودّ من رأسه حتى قدميه، وسحبناه وسط موجة ضحك وحزن  لا تنسى.

ومن يومها، صار نكتة المدينة، وكلما رأينا أحداً يتفاخر أو يدّعي بطولة وهمية، نقول له ضاحكين:

“ها… أبوك الوزير لو الملك؟!”

 

الزفت تغيّر… والغباء بقي

 

مرت السنين وتبدّلت الطرق، لكن الحفر لم تختفِ، بل كبرت وتناسلت — في الشوارع، وفي السياسة، وفي العقول.

اليوم، نرى نسخاً كثيرة من “ابن الوزير”، لكنهم لا يقفزون في الزفت بدافع التحدي الطفولي، بل يرمون أنفسهم في زفتٍ من نوعٍ آخر: زفت المناصب، وزفت الوعود، وزفت الكذب المصفّى.

 

يتحدثون عن البطولة والمقاومة والنزاهة، وكأنهم ولدوا من رحم الحقيقة لا من حفرة الأسفلت!

وعندما يسقط أحدهم، يختفي المصفقون، ويُترك وحده يصيح وسط الحفرة...

فنضحك نحن من بعيد ونردد المثل القديم:

“ها… أبوك الوزير لو الزعيم؟”

 

زمن البراءة والزفت

 

كانت براءة الأطفال تضحكنا، أما خبث الكبار فيُبكينا.

كنا نسحب صديقنا من حفرة زفتٍ صغيرة في شارعٍ ترابي،

واليوم، يحاول العراق كله أن يخرج من حفرة أعمق — حفرةٍ من الأكاذيب، والمصالح، والزفت السياسي الذي التصق بالوجوه حتى صار جزءاً من الملامح.


مشاهدات 49
الكاتب أحمد جاسم ألزبيدي
أضيف 2025/10/15 - 2:30 PM
آخر تحديث 2025/10/16 - 3:10 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 101 الشهر 10365 الكلي 12150220
الوقت الآن
الخميس 2025/10/16 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير