أربعة شهور مضت على إقامة صديق الغجري مع زوجته في منزل أخته الكبرى؛ وهو بلا مورد رزق بعد تركه العمل في جريدة العراق؛ لأنَّ الراتب الذي يستلمهُ ما عاد يكفي لسدِّ رمقه؛ فقد تهاوى الدينار العراقي أمام سطوة الدولار؛ وأصبح مرتبهُ في الجريدة لا يكفي لشراء نصف طبقة بيض. فكَّر بالانتحار هرباً من حياة الحرمان التي كان يعيشها مع زوجته؛ لقد عزم على ملأ دلو معدني بالماء ليضع فيه سلك كهرباء ويغمر بيديه حتى يتجمَّد دمه إثر الصعقات الكهربائية؛ لكنَّ بعض الميسورين من أعضاء منتدى الأدباء الشباب في كربلاء والذي كانوا يستلمون مكرمة الرئيس والبالغة 150 ديناراً؛ حين علموا بوضعه المادي الحرج، هبُّوا إلى معونته وجاءوا بوكالات عامة مصدقَّة من كاتب العدل لاستلام تلك المنحة بدلاً عنهم كهدية متواضعة لمقاومة صديقهم شظف العيش الذي كان يحاصرهُ؛ كان عددهم خمسة أفراد وهذا يعني استلامه مع منحته ما يقترب من الألف دينار؛ وهو مبلغ يكاد يكفيه لبضعة أيام على أقل تقدير؛ إذ كان الدولار الواحد يعادل 2500 دينار في ذلك الحصار القاسي؛ لكنَّ فكرة الانتحار عادت تشغل ذهنه؛ حين حضر حفلة زواج شقيقة زوجته في إحدى قاعات بغداد، وشاهد تناثر النقود على المطرب من قبل رجلين بملابس عربية عرف إنهما من أتباع الرئيس وقد حضرا الحفل بناء على دعوة أم العريس التي تعمل في مصرف وقد تعرَّفت عليهما وهما يودعان أكداس الدنانير في ذلك المصرف، شعر صديق الغجري كم هو ضئيل أمام هذا الثراء الفاحش؛ فهو لا يقوى حتى على دفع أجرة النقل لأم زوجته وشقيقاتها اللائي جئن من البصرة لحفل الزفاف؛ أخذ بيد عروسه إلى شقَّة صديقه خزعل الماجدي في حي صدَّام والتي كانت ليست بعيدة عن مكان الحفل، أملاً أنْ يعينهُ بمبلغ من المال، لكنَّ الماجدي اعتذر منهُ لضيق الحال؛ عاد خائباً لا يعرف ماذا يفعل أمام هذا المأزق؛ وإذا بزوجته تخلع حلقة زواجها لبيعها مقابل الحصول على ثمن أجرة عودة أهلها إلى البصرة؛ كان مشهد بيع حلقة الزواج عند أحد محال الذهب في الكاظمية قد أدمى قلبه، وهكذا عادت عائلة زوجته إلى البصرة؛ فيما استمرت نشاطات التجمع الثقافي التي بدأت تأخذ مساراً جديداً حمل عنوان «إبداعنا» والذي كان يعتمد بشكل جوهري على تبرعات الشيوخ المادية لاستضافة الأدباء في المحافظات التي يقام فيها المهرجان؛ وكانت أولى المحافظات التي تحمَّل شيوخها تكاليف المهرجان هي الديوانية؛ لقد كان صديق الغجري من ضمن الذين حضروا المهرجان هناك، حيث أقيمت لهم ولائم طعام دسمة في قضاء الشامية وناحية آل بدير، أجل تحوَّلت تسمية مهرجان إبداعنا إلى تسمية ساخرة أطلقها أحد الأدباء الملعونين، وصار جميع الأدباء يطلقون على هذا المهرجان «إطْعامنا» بسبب ولائم الطعام الكبيرة التي يقيمها هؤلاء الشيوخ برغم أنوفهم بناء على أوامر حازمة تصل لهم من نجل الرئيس الذي كان رئيساً للتجمع الثقافي، ثم تحوَّلتْ أهداف التجمع الثقافي إلى مسار آخر وانشغلوا بلعبة سمجة وذلك بإقامة مهرجان المناطيد الروسية ولك أنْ ترى هؤلاء الروس في شهر نيسان يملؤون فندق المنصور ميليا مع حماية مشدَّدة من قبل المخابرات عليهم لأنَّ أحفاد الجيش الأحمر هم من يطيرون بتلك المناطيد الملونة بمناسبة عيد القائد الميمون! كانت كلفة قدومهم وإقامتهم وإطعامهم وكحولهم وغيرها من النثريات تجمع نقودها قبل شهور من شيوخ العشائر بتبرعات إجبارية وبعملية تسليب علنية وبغطاء رسمي، لم يتركوا شيخا إلاَّ وحلبوا ضرعه وسلخ جيبه حتى فاحتْ رائحة فساد مالي في أروقة التجمع الثقافي، كان أول المتورطين فيها والذي كانت تحوم هو الشبهات هو رعد بندر؛ ولذا طلب عدي حضوره في موعد محدد للتحقيق؛ لجأ بندر إلى زيارة ضريح العباس (ع) لإنقاذ نفسه من سخط ابن الرئيس؛ وتحقق مراده بأعجوبة إذْ تجاهل عدي ذلك الاستدعاء الذي كاد يطيح بعنق رعد بندر؛ هذه الواقعة سمعها صديق الغجري من رعد شخصياً حين استضافه في شقته بشارع حيفا وكان معه القاص علي حسين عبيد؛ إذْ لاحظ صديق الغجري لوحة مائية لمنارتي العباس «ع» معلقة على الجدار وحين استفهم عنها؛ أخبره بندر بحكاية الاستدعاء من قبل عدي؛ فيما بدأ الذين ينتمون إلى الهيكل الرسمي لذلك التجمع الثقافي بالهروب من البلاد تباعاً خشية من جحيم معتقل الرضوانية الذي يمكن زجَّهم بزنازينه المرعبة على حين غرَّة نتيجة قرار جائر من عدي الأرعن. كان فرارهم يتم بناء على دعوات رسمية تصل لهم من مؤسسات ثقافية في الأردن ثم تروَّج لهم معاملات في التجمع الثقافي ويسافرون بدون ضريبة السفر الباهظة ولا يرجعون، سافر وسام هاشم بعد بيع أرضه في كربلاء والتي حصل عليها من خلال مبادرة صديق الغجري بوصفه رئيس منتدى الأدباء في المحافظة؛ حين رفع قائمة بالأدباء إلى المحافظ عبد الخالق عبد العزيز وقد وافق عليها وكان من بينهم وسام؛ لكنَّ المفارقة المؤلمة أنَّ صديق الغجري لم يحصل على قطعة الأرض في حينها لأن مسقط رأسه كان في مدينة أخرى؛ توالى سفر الأدباء حتى صديقه جان دمو الذي كان يلجأ له كلما احتبس صدره وغزته الهموم؛ رحل هو الآخر إلى الأردن. ذات صباح قرأنا في الصحف خبراً صغيراً عن إلغاء التجمع الثقافي وعودة المنظمات الثقافية والصحفية والفنية إلى نظامها القديم وقد سبقهُ انتشار خبرٍ صاعقٍ عن هروب سكرتير ابن الرئيس عباس الجنابي مع عائلته إلى خارج البلاد؛ لم يبق على أرض السواد إلاَّ القليل من شعراء الثمانينيات كان من بينهم صديق الغجري الذي أغلقت بوجهه جميع الأبواب للفرار من جحيم الوطن.
….يتبع..
حسن النواب