معظم الأدباء الذين عاشوا تلك الحقبة المؤلمة، تنقصهم الشجاعة للحديث بصراحة عن تلك السنوات الدامية والمرعبة؛ لأنهم كانوا متورطين مع النظام البعثي بشكل وآخر؛ ولذا تراهم يتفادون الإشارة لذلك الماضي التعيس وركنوا إلى الصمت؛ برغم يقينهم أنَّ الطاغية كان السبب الجوهري لجميع المشاكل التي وقعت في البلاد؛ الحروب؛ النفاق؛ الخيانات؛ الغدر؛ الصدود؛ التعاسة؛ الحرمان؛ الفقر وأفدحها الإعدامات التي كانت تجري في الشوارع وأمام مرأى الناس؛ لكن تلك الذكريات المريرة مازالت تتوهج مثل جمرة عظيمة في وجدان صديق الغجري ولا يمكن أن تخمد حتى لو أصبحت تحت التراب. تذكَّر هبة مخلَّد المختار نقيب الفنانين التشكيلين في ليلة ماطرة؛ حين كان على وشك مغادرة نادي الأدباء برفقة كزار حنتوش وعقيل علي؛ وإذا بالمختار يستوقفهم تحت وابل الغيث ليسأل عن أحوالهم؛ سرعان ما وضع رزمة نقود بيد عقيل علي وانصرف راكضاً نحو مركبته الفارهة وشعره الأشيب المُرسل يقطر بحبات المطر؛ تملكهم الذهول لأول وهلة؛ فهم لم يلتقوا به من قبل؛ ولا تربطهم علاقة صداقة معه؛ يبدو أنَّ المختار كان يتابع حياتهم التعيسة باهتمام حين قال لهم:
- أنتم مبدعون في الشعر وفي الحياة.
لكنَّ تلك الهبة كادت تتحوَّل إلى لعنة عليهم؛ فما أن غادر المختار بمركبته حتى فرَّ عقيل علي بالنقود؛ لم يكن أمام صديقي الغجري سوى اللحاق به؛ لبث يلاحقهُ حتى أمسك به في حديقة الأندلس؛ دخلا في صراعٍ عنيف حتى تمزَّق بنطلون وقميص عقيل على جسده، فيما أصبحت رزمة النقود بحوزة كزار الذي لحق بهما. كانت الهبة سخية في ذلك الحصار الاقتصادي الذي أذلَّ المعدمين وتكفيهم للمنام في فندق محترم مع وجبة عشاء دسمة وسهرة ملكية؛ اكتروا غرفة في فندق صحارى وظلوا يغنون بمنتهى الانطلاق حتى الصباح. كان عقيل علي يتدثر بملحفة الفندق بعد تلف ملابسه؛ عند الظهيرة لبث عقيل وكزار في الغرفة فيما نزل صديق الغجري إلى الباب الشرقي واشترى كسوةً من عربات الملابس القديمة؛ فظهر عقيل بهيئة أنيقة وهو يعتذر عن سلوكه الغريب ليلة أمس ومحاولة فراره بالنقود لتكون ملكهُ وحده. لمعت دمعة حائرة بعين صديق الغجري وهو يسترجع تلك المواقف الأليمة والدافئة في آنٍ واحد؛ لقد ترك الحصار مشاهد غريبة وطريفة وحرجة لا تخطر على بال مازالت عالقة في دهاليز ذاكرته؛ منها حين التقط الشاعر عدنان الصائغ كيساً ورقياً من الأرض وعرضه أمام أنظاره وقد استولتْ عليه الدهشة؛ لم يكن ذلك الكيس الذي توضع فيه حبوب الشمس سوى قصيدة رماد المسلة التي فازت بجائزة الأقلام؛ وفي سوق شعبي شاهد بائع الحلويات ينتزع ورقة من مجلة آفاق عربية ليضع عليها قطعة حلوى؛ ومن المؤسف أنَّ تلك الورقة لم تكن سوى قصيدة الأمير الفقير التي كتبها الشاعر حميد سعيد إلى كزار حنتوش. كان الجميع يعرف أنَّ المجلات الثقافية بعد وصولها إلى المكتبات لا تعرض على الرفوف ولا تصل إلى القارئ؛ إنما تباع على المحال التجارية بثمن بخس لاستخدامها كأكياس للتبضع؛ وخير برهان معمل الأكياس الورقية الذي أنشأه الشاعر إبراهيم البهرزي بالاشتراك مع الشاعر إبراهيم الخياط في أحد منازل بعقوبة؛ ولولاهُ لسحقهما الحصار بلا رحمة؛ ومن المشاهد الطريفة والمحرجة في ذات الوقت؛ حين أقيمت احتفالية في قاعة الإدارة المحلية بمناسبة قدوم الشاعر محمد الفيتوري إلى البلاد؛ وكان عريف الحفل صديق الغجري الذي كتب كلمة ترحيب تقطرُ بلاغةً وشهداً؛ لكن قبل صعوده إلى المنصَّة تفتَّق بنطلونه بسبب قدمه؛ فأسعفهُ أحد الحاضرين ليعيد رتقه بخوص سعفة على وجه السرعة قبل أنْ يكو مسخرة أمام الحاضرين. وذات نهار دخل شاعر أردني يُكنَّى أبو العبد إلى مكتبة سلمان داود محمد؛ كان قد برز حضوره بين الأدباء العراقيين في سنوات الحصار من خلال إغداق المال عليهم؛ وأصدر أكثر من ديوان بقصائد عامودية سخيفة وتافهة؛ انبرى للكتابة والإطراء عليها أحد الأصدقاء المقربين من صديق الغجري مقابل حفنة دنانير؛ جلس على كرسي في المكتبة مزهواً واثقاً من نفسه؛ وإذا بصديق الغجري يهجوهُ بشجاعةٍ بعد حوار متوتر معهُ:
- أموالك المريبة التي تنثرها على الأدباء لا تجعل منك شاعراً.
كأنَّ أبا العبد تلقَّى لكمة غير متوقعة على وجههِ؛ فاشتعل دم الغضب في قسماته؛ قال متوعداً.
- ستندم على كلامك هذا.
- لو كانت المكتبة مُلكي؛ لما أذنتَ لك بالدخول.
غزا العرق جبين الشاعر الأردني ونهض ليفرَّ من المكان. بعد مضي شهور أقيمت وليمة عشاء فخمة في اتحاد الأدباء بمناسبة انعقاد مهرجان المربد؛ وقد نُصبتْ خيمة كبيرة في الحديقة حضرها شعراء عرب وعراقيين؛ فاحت منها رائحة الطعام الشهية والخمور الفاخرة؛ دخل صديق الغجري إلى الخيمة وإذا بأبي العبد يطلب منهُ أمام الحاضرين بنبرة خشنة مغادرة المكان؛ فأدرك صديق الغجري أن تلك الوليمة من نقود هذا الشاعر العامودي البليد؛ شعر بالحرج لبرهةٍ لكن سرعان ما استعاد فطنته ليرد عليه بصلافةٍ:
- لم أكنْ أدخل إلى الخيمة؛ لو كنت أعلم أنَّ هذه الوليمة من نقودك الوسخة.
قبل مغادرة الخيمة سمع شاعر يثني على ابي العبد قائلا:
- حسناً فعلت؛ فهذه الخيمة للأدباء المحترمين وليس للصعاليك.
عند الصباح شاءت المصادفة أنْ يلتقي بالشاعر عند باب فندق المنصور؛ وبرغم هزال جسد صديق الغجري هجم على جثة الشاعر الضخمة؛ فاحتمى الأخير بالشاعر الأردني عيسى شتات الذي كان بصحبتهِ؛ حينها قال صديق الغجري موبِّخاً:
- لولا الشاعر عبد الأمير الحصيري الذي كنتَ ترافقهُ لما كتبت الشعر.
بعد مضي عام طويت صفحة «أبو العبد» واختفى من البلاد عندما انتفتْ حاجة المخابرات العراقية لهُ كما أشيع بين الأدباء.
يتبع…