حسن النواب
باءت بالفشل جميع محاولات صديق الغجري بالسفر إلى الأردن؛ وأقفل رعد بندر الأبواب بوجهه لمقابلة عباس الجنابي وتسهيل مهمة سفره؛ فيما نجح أقرانه من الشعراء بعبور البلاد بلا عراقيل ومنهم نصيف الناصري ومحمد تركي النصَّار وعلي السوداني وسواهم؛ وفي ظهيرة بائسة بينما كان يتجوَّل في شارع المتنبي استوقفه الكاتب المسرحي أحمد الصالح والذي كان يبيع الكتب على الرصيف؛ قال يناكده:
- أصدقاؤك يشربون نخبك في المنافي، وأنت مازلت هنا؟
- رفضوا ترويج معاملة سفري.
- كنتُ اعتقد سفرك معهم؟
- رعد بندر عرقلَ سفري.
- لماذا؟
- خشية من الكلام عليه بسوء هناك في الأردن.
ضحك أحمد الصالح وقال بصراحة:
- لهُ الحق في ذلك؛ أنت هنا لا تهاب أحداً؛ فكيف إذا أصبحت خارج البلاد.
ظلَّ صديق الغجري يلوك عذاباته صامتاً وقد اختفى الصالح عن ناظريه؛ تحسَّس ورقة محشورة في جيبه ليطمئن من وجودها؛ تلك الورقة كتب على سطورها قصيدة لصدام حسين للدفاع عن نفسه من خلالها؛ فليس بعيداً أنْ يُستدعى إلى التحقيق في دائرة الأمن على حين غرَّة؛ وكان ينوي نشرها في إحدى الصحف. حين دخل إلى نادي الأدباء وجد الشاعر جواد الحطَّاب هناك؛ وبحكم علاقته الوطيدة معهُ أخبره بشأن القصيدة التي عزم على نشرها؛ كان الحطَّاب مسؤولاً على القسم الثقافي في جريدة الثورة والأمين العام لاتحاد الأدباء في ذلك الوقت؛ أخذ بصديق الغجري ليجلس معه على طاولة بعيدة وأخبره أنَّ ضابط أمن جاء للاتحاد وسأل عنه؛ وقد نجحتُ بإقناعه أنك لست معادياً للحزب والثورة؛ هنا سأل صديق الغجري:
- هل أرجئ نشر القصيدة إذن؟
- بل تخلَّص منها؛ ولا تتورَّط في نشرها.
استلَّ صديق الغجري تلك القصيدة من جيبه ومزَّقها أمام الحطَّاب الذي أخبره قائلاً:
- هات نصوصك القصيرة التي قرأتها في ملتقى تموز الشعري؛ لنشرها في عدد مجلة أسفار عن الجيل الثمانيني.
اجتاحت قلب صديق الغجري غبطة غامرة ولثم خد الحطَّاب؛ ولولا خجله لكان قد رقص أمامه حين سمع ذلك. عاد إلى مدينته كربلاء لحضور أمسية خاصة؛ مزمع إقامتها من قبل اتحاد أدباء كربلاء لهُ بمناسبة زواجه؛ وقد أخبره الشاعر هادي الربيعي عن موعدها؛ كانت فرصة ثمينة ليبرهن إلى عروسه في تلك الأمسية على موهبته في الشعر؛ فأخذها معه عصر اليوم التالي لتلك الأمسية المنتظر إقامتها في قاعة نقابة المعلمين؛ وهي ذاتها التي أقام بها حفلة زفافه قبل أسبوع مقابل ثمانية آلاف دينار كأجور عن القاعة دفعها لمحاسب النقابة والذي فوجئ إنما هو مدير مدرسته عندما كان في متوسطة الكرامة؛ ويبدو أن الحصار جاء به كمحاسب للنقابة بعد إحالته على التقاعد؛ وهكذا أقام صديق الغجري حفلة عرس علنية جلس خلالها بجوار عروسته أمام الحاضرين ليكسر بذلك تقاليد الأعراس في مدينة مقدسة محافظة؛ أضف إلى إسهام نخبة من فناني كربلاء للغناء؛ كان بينهم إياد زيني ومحمد القصّاب والفنان مهدي هندو الذي رفض ظاهرة رمي النقود على رأسه فانبرى صديق الغجري ليجمع تلك النقود المتناثرة على الأرض وحشرها في جيبه الذي تصفر فيه الريح كتعويض عن الأجور التي دفعها. وصل مع عروسته لموعد الأمسية بالوقت المحدد وقبل دخولهما إلى القاعة ظهر هادي الربيعي ليخبره أنَّ الأمسية حذفت من البرنامج وتم استبدالها بأخرى؛ كأنَّ الربيعي حرص أن تسمع ذلك الخبر الصادم زوجة صديق الغجري الذي غزاه العرق وتصاعد وجيب قلبه وانسحب من قاعة المعلمين يكاد لا يقوى النظر بوجه عروسه؛ لقد طعنوه بقسوة وابتلع طعمهم اللئيم على مضض؛ فقد أرادوا من خلال ذلك رد الاعتبار لهم بعد هجوم صديق الغجري على جاسم عاصي في قاعة المصورين قبل شهور مضت من زواجه؛ حين أصبح عاصي رئيس اللجنة المؤقتة لاتحاد أدباء كربلاء؛ كان صديق الغجري في ذلك اليوم قد احتسى الخمر برفقة الشاعر عمار المسعودي هناك في بستان الأخير وقد حضرا لقاء اللجنة المؤقتة مع أدباء كربلاء؛ عقدت الدهشة لسان صديق الغجري حين انبرى جاسم عاصي بمدح الرئيس على مكارمه السخيَّة للأدباء وتلك كانت المرة الأولى التي يسمع تقريظ عاصي للرئيس؛ كأنما أراد بذلك الإطراء على الرئيس تزكية نفسه أمام البعثي المتشدد عبد اللطيف الدارمي الذي كان يجلس بجواره؛ وإذا بصديق الغجري يفتح رشاش الكلام محتجاً على عاصي الذي عمد على إغفال اسم صديق الغجري من ضمن اللجنة المؤقتة بوصفه كان رئيس منتدى الأدباء الشباب في كربلاء؛ ترك على رؤوسهم الطير وغادر المكان؛ وهاهم يردون الصاع له بصاعين عندما أبطلوا أمسيته وأحرجوه أمام عروسه التي لم يمض على زواجه منها سوى سبعة أيام.
يتبع..