الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
‭ ‬الشاعر‭ ‬والبلاد‭ ‬‭(‬35‭)‬

بواسطة azzaman

‭ ‬الشاعر‭ ‬والبلاد‭ ‬‭(‬35‭)‬

حسن‭ ‬النواب

 

في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬وأعني‭ ‬منتصف‭ ‬التسعينيات؛‭ ‬صدرت‭ ‬إلى‭ ‬جان‭ ‬دمو‭ ‬مجموعة‭ ‬شعرية‭ ‬بقصائد‭ ‬قليلة‭ ‬وكانت‭ ‬بعنوان‭ ‬أسمال،‭ ‬وقد‭ ‬تبنَّتْ‭ ‬دار‭ ‬الأمد‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬بإشراف‭ ‬سيدة‭ ‬أردنية‭ ‬تُدعى‭ ‬حكمية‭ ‬جرَّار‭ ‬كلفة‭ ‬طباعتها،‭ ‬كما‭ ‬سبقها‭ ‬منح‭ ‬تلك‭ ‬الدار‭ ‬بعض‭ ‬الهبات‭ ‬المالية‭ ‬المتواضعة‭ ‬إلى‭ ‬جان‭ ‬لكي‭ ‬تحثَّهُ‭ ‬على‭ ‬إكمال‭ ‬قصائد‭ ‬المجموعة،‭ ‬بلْ‭ ‬بادرت‭ ‬إلى‭ ‬إسكانهِ‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬صغيرة‭ ‬من‭ ‬بناية‭ ‬الدار‭ ‬حتى‭ ‬صدور‭ ‬مجموعته‭ ‬الشعرية‭ ‬ثم‭ ‬تخلَّتْ‭ ‬عنهُ‭ ‬بصفاقة‭. ‬كان‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬ملازماً‭ ‬إلى‭ ‬جان‭ ‬دمو‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬بل‭ ‬يكاد‭ ‬لا‭ ‬يفارقهُ؛‭ ‬ويمكن‭ ‬أنْ‭ ‬تراهما‭ ‬يجلسان‭ ‬معاً‭ ‬في‭ ‬حانة‭ ‬روافد‭ ‬دجلة‭ ‬ظهيرة‭ ‬كل‭ ‬يوم؛‭ ‬وكان‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬يحاول‭ ‬بث‭ ‬الحماس‭ ‬لدى‭ ‬جان‭ ‬لكتابة‭ ‬قصائد‭ ‬جديدة،‭ ‬يتذكَّر‭ ‬قصيدةً‭ ‬كتب‭ ‬جان‭ ‬مقطعاً‭ ‬منها‭ ‬يقول‭ ‬فيه‭:‬

‭-  ‬إنهم‭ ‬يقتلون‭ ‬الجياد‭…‬

‭  ‬أليس‭ ‬كذلك‭…‬؟‭!‬

وكم‭ ‬حاول‭ ‬جان‭ ‬دمو‭ ‬إكمال‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬لكن‭ ‬دون‭ ‬جدوى؛‭ ‬فتركها‭ ‬هكذا‭. ‬ذات‭ ‬ليلة‭ ‬كان‭ ‬مربَّع‭ ‬الصعلكة‭ ‬المؤلَّف‭ ‬من‭ ‬جان‭ ‬دمو‭ ‬وكزار‭ ‬حنتوش‭ ‬والغجري‭ ‬نصيف‭ ‬الناصري‭ ‬وصديق‭ ‬الغجري‭ ‬على‭ ‬موعد‭ ‬مع‭ ‬أمسية‭ ‬شعرية‭ ‬أقامها‭ ‬لهم‭ ‬اتحاد‭ ‬الأدباء‭ ‬وكانت‭ ‬خاتمة‭ ‬برنامجه‭ ‬الثقافي‭ ‬السنوي؛‭ ‬وكان‭ ‬موعد‭ ‬الأمسية‭ ‬الساعة‭ ‬السابعة‭ ‬مساءً،‭ ‬لكنَّ‭ ‬جان‭ ‬دمو‭ ‬فاجأ‭ ‬أصحابه‭ ‬بعدم‭ ‬رغبته‭ ‬لحضور‭ ‬تلك‭ ‬الأمسية؛‭ ‬ولما‭ ‬وصل‭ ‬الخبر‭ ‬إلى‭ ‬اتحاد‭ ‬الأدباء‭ ‬بعثوا‭ ‬الشاعر‭ ‬منذر‭ ‬عبد‭ ‬الحر‭ ‬لإقناعهِ؛‭ ‬لكنَّهُ‭ ‬أصرَّ‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬الاشتراك‭ ‬بالأمسية؛‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬الجمهور‭ ‬ينتظر‭ ‬قدومه؛‭ ‬فانبرى‭ ‬الشاعر‭ ‬عريان‭ ‬السيد‭ ‬خلف‭ ‬ليحضر‭ ‬إلى‭ ‬حانة‭ ‬روافد‭ ‬دجلة‭ ‬وبعد‭ ‬حوار‭ ‬استمر‭ ‬طويلاً‭ ‬مع‭ ‬جان‭ ‬دمو؛‭ ‬نجح‭ ‬عريان‭ ‬من‭ ‬إقناعه‭ ‬للمشاركة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأمسية؛‭ ‬ليحمل‭ ‬مُربَّع‭ ‬الصعلكة‭ ‬بسيارته‭ ‬الخاصة‭ ‬إلى‭ ‬الاتحاد؛‭ ‬ولما‭ ‬كان‭ ‬الجمهور‭ ‬الذي‭ ‬حضر‭ ‬لتلك‭ ‬الأمسية‭ ‬قد‭ ‬ملأ‭ ‬القاعة‭ ‬وهناك‭ ‬الكثير‭ ‬منه‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬مقعداً‭ ‬للجلوس‭ ‬عليه،‭ ‬اقترحت‭ ‬إدارة‭ ‬الإتحاد‭ ‬إقامة‭ ‬تلك‭ ‬الأمسية‭ ‬في‭ ‬حدائق‭ ‬النادي‭ ‬لاستيعاب‭ ‬الجمهور‭ ‬الذي‭ ‬حضر،‭ ‬إذْ‭ ‬كان‭ ‬إقبال‭ ‬الجمهور‭ ‬الكبير‭ ‬قد‭ ‬شكل‭ ‬مفاجأة‭ ‬صادمة‭ ‬لإدارة‭ ‬الاتحاد،‭ ‬فيما‭ ‬أنيط‭ ‬تقديم‭ ‬الأمسية‭ ‬للشاعر‭ ‬منذر‭ ‬عبد‭ ‬الحر،‭ ‬وعندما‭ ‬دعاهُ‭ ‬لقراءة‭ ‬قصائده؛‭ ‬كانت‭ ‬المفاجأة‭ ‬أنَّ‭ ‬جان‭ ‬دمو‭ ‬لم‭ ‬ينهض‭ ‬للجلوس‭ ‬بجوار‭ ‬مقدَّم‭ ‬الأمسية‭ ‬ليقرأ‭ ‬نصوصه؛‭ ‬أنما‭ ‬لبث‭ ‬جالساً‭ ‬على‭ ‬مقعده‭ ‬بين‭ ‬الجمهور‭ ‬وقرأ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬سريالية،‭ ‬تهكمية،‭ ‬ساخطة‭ ‬أثارت‭ ‬إعجابهم،‭ ‬أحد‭ ‬الحاضرين‭ ‬ظلَّ‭ ‬يكرر‭ ‬بدهشةٍ‭:‬

‭- ‬الله،‭ ‬الله،‭ ‬الله‭… ‬

وإذا‭ ‬بجان‭ ‬يتوقَّف‭ ‬عن‭ ‬الإلقاء؛‭ ‬ليهجو‭ ‬ذلك‭ ‬المعجب‭ ‬المنكود‭ ‬الحظ‭:‬

‭- ‬صَهْ‭ ‬يا‭ ‬غبي‭.‬

‭ ‬كاد‭ ‬ذلك‭ ‬المعجب‭ ‬أنْ‭ ‬يغوص‭ ‬في‭ ‬مقعده‭ ‬من‭ ‬الخجل؛‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬أمامه‭ ‬سوى‭ ‬ترك‭ ‬المكان‭ ‬محرجاً؛‭ ‬فيما‭ ‬قرأ‭ ‬كزار‭ ‬حنتوش‭ ‬قصيدة‭ ‬مثيرة‭ ‬وخطيرة‭ ‬مجَّدَ‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬سطورها‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬بالإيماء،‭ ‬وقد‭ ‬أهداها‭ ‬إلى‭ ‬الشاعر‭ ‬رشدي‭ ‬العامل؛‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬مقطعٍ‭ ‬منها‭:‬

‭- ‬هذا‭ ‬رجلٌ‭ ‬أحمر‭ ‬شرط‭ ‬السكين‭.‬

وألقى‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬قصيدة‭ ‬بعنوان‭ ‬تشابيه؛‭ ‬كان‭ ‬خطابها‭ ‬الشعري‭ ‬ينهل‭ ‬مفرداته‭ ‬من‭ ‬إرث‭ ‬الطقوس‭ ‬الحسينية‭ ‬المقدسة؛‭ ‬ليختتم‭ ‬الأمسية‭ ‬الغجري‭ ‬نصيف‭ ‬الناصري‭ ‬بقصيدة‭ ‬ساخرة‭ ‬وصادمة‭ ‬للجمهور؛‭ ‬قال‭ ‬في‭ ‬مقطع‭ ‬منها‭:‬

‭- ‬القمل‭ ‬الذي‭ ‬برأس‭ ‬صديقي؛‭ ‬يعود‭ ‬لي‭.‬

حالما‭ ‬انتهت‭ ‬الأمسية‭ ‬المثيرة؛‭ ‬تمت‭ ‬دعوتهم‭ ‬إلى‭ ‬مائدة‭ ‬مفتوحة‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬إدارة‭ ‬الإتحاد،‭ ‬بعد‭ ‬مضي‭ ‬ساعة‭ ‬سرت‭ ‬لعنة‭ ‬ابنة‭ ‬الكروم‭ ‬في‭ ‬عروق‭ ‬صديق‭ ‬الغجري،‭ ‬فاهتاج‭ ‬وأخذ‭ ‬يصيح‭:‬

‭- ‬إكلاوات؛‭ ‬إكلاوات؛‭ ‬كلكم‭ ‬إكلاوات‭. ‬

حملهُ‭ ‬نادلان‭ ‬من‭ ‬النادي‭ ‬إلى‭ ‬خارج‭ ‬المكان؛‭ ‬فيما‭ ‬أصدرت‭ ‬إدارة‭ ‬الاتحاد‭ ‬قراراً‭ ‬بمنع‭ ‬دخوله‭ ‬إلى‭ ‬النادي‭ ‬لمدة‭ ‬نصف‭ ‬عام‭. ‬ذات‭ ‬مساء‭ ‬دخل‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬إلى‭ ‬الحانة‭ ‬وذُهلَ‭ ‬حين‭ ‬رأى‭ ‬الطاولة‭ ‬التي‭ ‬أمام‭ ‬جان‭ ‬دمو‭ ‬عامرة‭ ‬بأفخر‭ ‬أنواع‭ ‬ابنة‭ ‬الكروم‭ ‬وصحون‭ ‬الطعام‭ ‬الشهيَّة؛‭ ‬ولما‭ ‬سألهُ‭ ‬عمَّن‭ ‬جاء‭ ‬بها؛‭ ‬طفتْ‭ ‬ابتسامة‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬جان‭ ‬وقال‭ ‬منشرحاً‭:‬

‭- ‬من‭ ‬صديقي‭ ‬سركون‭ ‬بولص‭.‬

طافتْ‭ ‬لواحظ‭ ‬صديقي‭ ‬الغجري‭ ‬في‭ ‬أرجاء‭ ‬الحانة‭ ‬عسى‭ ‬أنْ‭ ‬يجد‭ ‬لهُ‭ ‬أثراً،‭ ‬فلربما‭ ‬الشاعر‭ ‬سركون‭ ‬دخل‭ ‬إلى‭ ‬البلاد‭ ‬سرَّاً؛‭ ‬فيما‭ ‬أشار‭ ‬جان‭ ‬دمو‭ ‬إلى‭ ‬شخص‭ ‬كان‭ ‬يجلس‭ ‬إلى‭ ‬طاولة‭ ‬قريبة‭ ‬منهُ‭ ‬وقال‭:‬

‭- ‬هذا‭ ‬شقيق‭ ‬سركون؛‭ ‬وقد‭ ‬حمل‭ ‬لي‭ ‬رسالة‭ ‬شفوية‭ ‬منهُ؛‭ ‬مع‭ ‬كثيرٍ‭ ‬من‭ ‬النقود‭.‬

‭- ‬ولماذا‭ ‬لا‭ ‬يجلس‭ ‬معك‭.‬

غمز‭ ‬جان‭ ‬بعينه‭ ‬اليمنى‭ ‬وطلب‭ ‬من‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬الجلوس‭ ‬لجواره؛‭ ‬وهنا‭ ‬همس‭ ‬بأذنه‭:‬

‭-  ‬احتراز‭ ‬أمني‭.‬

كان‭ ‬جان‭ ‬دمو‭ ‬مصيباً؛‭ ‬فليس‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬حانة‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مزروعة‭ ‬برجال‭ ‬الأمن‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت؛‭ ‬وربما‭ ‬جلوس‭ ‬شقيق‭ ‬سركون‭ ‬مع‭ ‬جان‭ ‬يثير‭ ‬الشبهات‭ ‬لديهم‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬المائدة‭ ‬العامرة؛‭ ‬وهم‭ ‬يعرفون‭ ‬أن‭ ‬الصعاليك‭ ‬بالكاد‭ ‬يحصلون‭ ‬على‭ ‬ابنة‭ ‬الكروم؛‭ ‬هنا‭ ‬سأل‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭:‬

‭-  ‬كم‭ ‬أرسل‭ ‬لك‭ ‬من‭ ‬نقود؟

‭- ‬أجهل‭ ‬المبلغ‭ ‬بالضبط؛‭ ‬لكني‭ ‬طلبتُ‭ ‬من‭ ‬شقيقه‭ ‬تقديمه‭ ‬لي‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬دفعات‭.‬

كأنَّ‭ ‬شقيق‭ ‬سركون‭ ‬سمعهُ‭ ‬فنهض‭ ‬نحو‭ ‬مائدتهما‭ ‬ليخبر‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬هامساً‭ ‬بحذر‭: ‬

‭- ‬ها‭ ‬أنا‭ ‬أزور‭ ‬الحانة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مساء،‭ ‬لأدفع‭ ‬حساب‭ ‬جان‭ ‬وأمضي‭.‬

بعد‭ ‬مضي‭ ‬شهر‭ ‬اختفى‭ ‬شقيق‭ ‬سركون؛‭ ‬وأدرك‭ ‬جان‭ ‬دمو‭ ‬أن‭ ‬المبلغ‭ ‬الذي‭ ‬أرسله‭ ‬سركون‭ ‬قد‭ ‬نفد،‭ ‬فساءتْ‭ ‬أحوالهُ؛‭ ‬وبينما‭ ‬كان‭ ‬يحتسي‭ ‬أحد‭ ‬أصناف‭ ‬ابنة‭ ‬الكروم‭ ‬الرديئة‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬بيوتات‭ ‬الحيدر‭ ‬خانة؛‭ ‬هشَّمَ‭ ‬جان‭ ‬دمو‭ ‬كأسه‭ ‬على‭ ‬الطاولة‭ ‬وهتف‭ ‬بحرقةٍ‭:‬

‭- ‬ما‭ ‬عدتُ‭ ‬أطيق‭ ‬هذا‭ ‬البؤس؛‭ ‬سأترك‭ ‬البلاد‭.‬

يتبع‭…‬


مشاهدات 92
الكاتب حسن‭ ‬النواب
أضيف 2024/11/19 - 12:27 AM
آخر تحديث 2024/11/23 - 9:22 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 6 الشهر 9924 الكلي 10053068
الوقت الآن
الأحد 2024/11/24 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير