في تلك الفترة وأعني منتصف التسعينيات؛ صدرت إلى جان دمو مجموعة شعرية بقصائد قليلة وكانت بعنوان أسمال، وقد تبنَّتْ دار الأمد التي كانت بإشراف سيدة أردنية تُدعى حكمية جرَّار كلفة طباعتها، كما سبقها منح تلك الدار بعض الهبات المالية المتواضعة إلى جان لكي تحثَّهُ على إكمال قصائد المجموعة، بلْ بادرت إلى إسكانهِ في غرفة صغيرة من بناية الدار حتى صدور مجموعته الشعرية ثم تخلَّتْ عنهُ بصفاقة. كان صديق الغجري ملازماً إلى جان دمو في ذلك الوقت بل يكاد لا يفارقهُ؛ ويمكن أنْ تراهما يجلسان معاً في حانة روافد دجلة ظهيرة كل يوم؛ وكان صديق الغجري يحاول بث الحماس لدى جان لكتابة قصائد جديدة، يتذكَّر قصيدةً كتب جان مقطعاً منها يقول فيه:
- إنهم يقتلون الجياد…
أليس كذلك…؟!
وكم حاول جان دمو إكمال هذه القصيدة لكن دون جدوى؛ فتركها هكذا. ذات ليلة كان مربَّع الصعلكة المؤلَّف من جان دمو وكزار حنتوش والغجري نصيف الناصري وصديق الغجري على موعد مع أمسية شعرية أقامها لهم اتحاد الأدباء وكانت خاتمة برنامجه الثقافي السنوي؛ وكان موعد الأمسية الساعة السابعة مساءً، لكنَّ جان دمو فاجأ أصحابه بعدم رغبته لحضور تلك الأمسية؛ ولما وصل الخبر إلى اتحاد الأدباء بعثوا الشاعر منذر عبد الحر لإقناعهِ؛ لكنَّهُ أصرَّ على عدم الاشتراك بالأمسية؛ بينما كان الجمهور ينتظر قدومه؛ فانبرى الشاعر عريان السيد خلف ليحضر إلى حانة روافد دجلة وبعد حوار استمر طويلاً مع جان دمو؛ نجح عريان من إقناعه للمشاركة في تلك الأمسية؛ ليحمل مُربَّع الصعلكة بسيارته الخاصة إلى الاتحاد؛ ولما كان الجمهور الذي حضر لتلك الأمسية قد ملأ القاعة وهناك الكثير منه لم يجد مقعداً للجلوس عليه، اقترحت إدارة الإتحاد إقامة تلك الأمسية في حدائق النادي لاستيعاب الجمهور الذي حضر، إذْ كان إقبال الجمهور الكبير قد شكل مفاجأة صادمة لإدارة الاتحاد، فيما أنيط تقديم الأمسية للشاعر منذر عبد الحر، وعندما دعاهُ لقراءة قصائده؛ كانت المفاجأة أنَّ جان دمو لم ينهض للجلوس بجوار مقدَّم الأمسية ليقرأ نصوصه؛ أنما لبث جالساً على مقعده بين الجمهور وقرأ أكثر من قصيدة سريالية، تهكمية، ساخطة أثارت إعجابهم، أحد الحاضرين ظلَّ يكرر بدهشةٍ:
- الله، الله، الله…
وإذا بجان يتوقَّف عن الإلقاء؛ ليهجو ذلك المعجب المنكود الحظ:
- صَهْ يا غبي.
كاد ذلك المعجب أنْ يغوص في مقعده من الخجل؛ ولم يكن أمامه سوى ترك المكان محرجاً؛ فيما قرأ كزار حنتوش قصيدة مثيرة وخطيرة مجَّدَ من خلال سطورها الحزب الشيوعي بالإيماء، وقد أهداها إلى الشاعر رشدي العامل؛ يقول في مقطعٍ منها:
- هذا رجلٌ أحمر شرط السكين.
وألقى صديق الغجري قصيدة بعنوان تشابيه؛ كان خطابها الشعري ينهل مفرداته من إرث الطقوس الحسينية المقدسة؛ ليختتم الأمسية الغجري نصيف الناصري بقصيدة ساخرة وصادمة للجمهور؛ قال في مقطع منها:
- القمل الذي برأس صديقي؛ يعود لي.
حالما انتهت الأمسية المثيرة؛ تمت دعوتهم إلى مائدة مفتوحة على حساب إدارة الإتحاد، بعد مضي ساعة سرت لعنة ابنة الكروم في عروق صديق الغجري، فاهتاج وأخذ يصيح:
- إكلاوات؛ إكلاوات؛ كلكم إكلاوات.
حملهُ نادلان من النادي إلى خارج المكان؛ فيما أصدرت إدارة الاتحاد قراراً بمنع دخوله إلى النادي لمدة نصف عام. ذات مساء دخل صديق الغجري إلى الحانة وذُهلَ حين رأى الطاولة التي أمام جان دمو عامرة بأفخر أنواع ابنة الكروم وصحون الطعام الشهيَّة؛ ولما سألهُ عمَّن جاء بها؛ طفتْ ابتسامة على وجه جان وقال منشرحاً:
- من صديقي سركون بولص.
طافتْ لواحظ صديقي الغجري في أرجاء الحانة عسى أنْ يجد لهُ أثراً، فلربما الشاعر سركون دخل إلى البلاد سرَّاً؛ فيما أشار جان دمو إلى شخص كان يجلس إلى طاولة قريبة منهُ وقال:
- هذا شقيق سركون؛ وقد حمل لي رسالة شفوية منهُ؛ مع كثيرٍ من النقود.
- ولماذا لا يجلس معك.
غمز جان بعينه اليمنى وطلب من صديق الغجري الجلوس لجواره؛ وهنا همس بأذنه:
- احتراز أمني.
كان جان دمو مصيباً؛ فليس هناك من حانة في البلاد لم تكن مزروعة برجال الأمن في ذلك الوقت؛ وربما جلوس شقيق سركون مع جان يثير الشبهات لديهم مع هذه المائدة العامرة؛ وهم يعرفون أن الصعاليك بالكاد يحصلون على ابنة الكروم؛ هنا سأل صديق الغجري:
- كم أرسل لك من نقود؟
- أجهل المبلغ بالضبط؛ لكني طلبتُ من شقيقه تقديمه لي على شكل دفعات.
كأنَّ شقيق سركون سمعهُ فنهض نحو مائدتهما ليخبر صديق الغجري هامساً بحذر:
- ها أنا أزور الحانة في كل مساء، لأدفع حساب جان وأمضي.
بعد مضي شهر اختفى شقيق سركون؛ وأدرك جان دمو أن المبلغ الذي أرسله سركون قد نفد، فساءتْ أحوالهُ؛ وبينما كان يحتسي أحد أصناف ابنة الكروم الرديئة من صنع بيوتات الحيدر خانة؛ هشَّمَ جان دمو كأسه على الطاولة وهتف بحرقةٍ:
- ما عدتُ أطيق هذا البؤس؛ سأترك البلاد.
يتبع…