حسن النواب
في الحديقة الموحشة التي مازال يجلس على مصطبتها العتيقة؛ كانت الخواطر الأليمة تنكأ في حشاشة قلب صديق الغجري كمداً؛ حين تذكَّر جفاء وخذلان الأصحاب الذين وصلوا إلى مهاجرهم منذُ سنوات؛ وهم يصفونَ حياتهم الرغيدة هناك في الرسائل التي وصلت منهم؛ لكن ليس فيهم من بادر إلى معونتهِ لكي يزيح الحرمان عن أحواله البائسة والتي تدع حتى الظلم يذرف الدمع عليها، لكنَّ ورقةً واحدةً وصلتهُ خلافاً للتوقعات؛ قلبتْ حياتهُ رأساً على عقب؛ وكانت أول ورقة خضراء تلمسها أصابعهُ في منتصف التسعينيات، والورقة الخضراء التي أعنيها هي العملة النقدية من فئة مئة دولار أمريكي والتي يطلق عليها في بلادنا تسمية ورقة؛ لا أدري من هو التاجر أو الكائن الماكر الذي أطلق هذه التسمية لأول مرة، والتي لا تخلو من غرابة أو استهانة بتلك العملة النقدية الثمينة؟ تلك الورقة الخضراء صارت بقبضة يده بظرف مادي قاهر كان يعيش عذاباته وحرمانه جميع العراقيين إلاَّ ما ندر بسبب الحصار الاقتصادي. كان حصول العائلة الفقيرة على ربع ورقة في ذلك الوقت يعني تأمين قوتها لمدة شهر وأكثر؛ فكيف سيكون الحال مع صديق الغجري وقد صارت بحوزته ورقة خضراء كاملة؛ أجل هذا ما حدث معهُ حين جاءت والدته رحمها الله والفرحة تغمر وجهها؛ لتخبره أنَّ مكالمة وصلت من بغداد على هاتف المنزل تطلب حضوره لاستلام حوالة نقدية، صعقهُ الخبر حتى كادت العبرات تنفجر من عينيه أمام مرأى زوجته؛ لكنَّهُ تمكَّن من وأد دموع الغبطة كمن يقتلُ حلماً وردياً في خاطره مرغماً. ظلَّ متسرنماً أمام أمه وزوجته وأخته وزوجها وقد استولى عليه الذهول؛ فليس هناك من صديق في الخارج وما أكثرهم قد وعده مثلاً بإرسال حتى عشرة دراهم لهُ، وهكذا سافر إلى بغداد على عجل بعد أنْ استدان أجرة النقل من زوج أخته، إذْ كانت جيوبه مليئة بالحسرات والآهات ليس إلاَّ، ولا أثر حتى لدينار واحد في جوفها؛ أجل كان بحالة يرثى لها وهو حديث عهد بالزواج؛ بالوقت الذي كان يفترض المباشرة كنادل في مطعم شعبي صباح الغد؛ غير أنَّ النبأ السار الذي حملته والدته دعاهُ إلى إرجاء ذلك العمل والانطلاق إلى بغداد التي وصلها عند الضحى؛ ومن تلفون عمومي هاتف الرقم الذي تركهُ المتصل لدى والدته، ليستمع إلى صوتٍ يافعٍ بلهجةٍ بغداديةٍ؛ كانت نبرتهُ رقيقة تشير إلى الثراء؛ طلب منهُ الحضور أمام معرض بغداد الدولي، وقد استفهم من صديق الغجري عن الملابس التي يرتديها حتى يستدلُّ عليه؛ أجابه وهو غير مصدق ما يجري حتى الآن:
- أرتدي قميصاً أصفر اللون.
كان قد استعارهُ من زوج أخته أيضاً؛ ما أنْ وصل إلى المكان حتى تقدَّم شاب نحوه؛ يبدو على هندامه الترف وأخذ بيده إلى شارع أنيق في منطقة الحارثية، طلب منهُ إثبات شخصية فوضع بيده هوية اتحاد الأدباء، تمعَّنَ فيها ثم سألهُ بإعجاب:
- حضرتك شاعر؟
- نعم.
- مرسل الحوالة، هل يمتُّ لك بصلة قربى؟
ردَّ عليه وقد نفدَ صبره:
- في الواقع؛ أنا لا أعرف من أرسل لي الحوالة.
أجابهُ الفتى وعلى وجهه طيف ابتسامة مطمئنة:
- الذي أرسل الحوالة يُدعى هاشم معتوق.
تنفَّس صديق الغجري الصعداء واهتزَّ قلبه من الحبور؛ احتاج لبرهةٍ قبل أنْ يقول:
- هو صديقي الشاعر الذي يقيمُ في فنلندا.
وضعَ الشاب بيده الورقة الخضراء ليخبرهُ بحرصٍ:
- هذه الورقة طبعة حديثة.
- ماذا يعني ذلك؟
أدرك الشاب أنَّ صديق الغجري يجهل في تصريف العملة؛ فنصحه قائلاً:
- يعني أنَّ تصريفها إلى الدينار العراقي سيكون أكثر من الورقة القديمة.
ثمَّ تجرأ ليسألهُ بوقاحةٍ:
– مثقَّف ولا تعرف بتصريف العملة؟
بنبرةٍ مختنقةٍ من الدهشة التي كانت تسكنهُ تلك اللحظات قال:
- هذه أول مرة في حياتي، أرى بها هذه العملة النقدية بشكل مباشر وألمسها بيدي.
- كان الله بعونك.
انصرف الشاب الميسور وترك الكائن المُعدم مرتبكاً؛ كأنَّهُ شعر بضياع الورقة من جيبهِ بغتةً؛ فقرر وضعها في جيب آخر أكثر أماناً، سرعان ما انتابهُ القلق وخشيَ عليها من السقوط؛ حتى استقر الأمر أخيراً على حشرها في قبضة كفِّهِ؛ لكنَّ راحة يده تعرَّقتْ فاحتاط على الورقة الخضراء من التلف ليعود ويدفنها في جيب القميص الأصفر. كان يتحسس الورقة بأطراف أصابعه بين حين وآخر طيلة الطريق من بغداد إلى مدينة كربلاء خشية على الورقة الخضراء من الطيران أو التبخر؛ لما دخل إلى منزل بيت أخته سارع لوضع الورقة الخضراء بين دفتي المصحف الكريم، وارتمى على فراشه والدموع تنهمر تترى من عينيه، فتلك الورقة الخضراء كان تحويلها إلى الدينار العراقي في ذلك الوقت يساوي ربع مليون دينار وربما أكثر من ذلك؛ وحين سألتهُ عروسهُ:
- هل ستذهب إلى المطعم لمباشرة العمل غداً؟
أطلقَ صديق الغجري ضحكة صادحة؛ كأنَّها طردت خفافيش الإملاق والحرمان من الحجرة وأجابها بثقة راسخة:
- أي عمل؛ أنا ربع مليونير الآن، هل تفهمين؟