الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الشاعر‭ ‬والبلاد‭ ‬‭(‬32‭)‬

بواسطة azzaman

الشاعر‭ ‬والبلاد‭ ‬‭(‬32‭)‬

حسن‭ ‬النواب

 

في‭ ‬الحديقة‭ ‬الموحشة‭ ‬التي‭ ‬مازال‭ ‬يجلس‭ ‬على‭ ‬مصطبتها‭ ‬العتيقة؛‭ ‬كانت‭ ‬الخواطر‭ ‬الأليمة‭ ‬تنكأ‭ ‬في‭ ‬حشاشة‭ ‬قلب‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬كمداً؛‭ ‬حين‭ ‬تذكَّر‭ ‬جفاء‭ ‬وخذلان‭ ‬الأصحاب‭ ‬الذين‭ ‬وصلوا‭ ‬إلى‭ ‬مهاجرهم‭ ‬منذُ‭ ‬سنوات؛‭ ‬وهم‭ ‬يصفونَ‭ ‬حياتهم‭ ‬الرغيدة‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬الرسائل‭ ‬التي‭ ‬وصلت‭ ‬منهم؛‭ ‬لكن‭ ‬ليس‭ ‬فيهم‭ ‬من‭ ‬بادر‭ ‬إلى‭ ‬معونتهِ‭ ‬لكي‭ ‬يزيح‭ ‬الحرمان‭ ‬عن‭ ‬أحواله‭ ‬البائسة‭ ‬والتي‭ ‬تدع‭ ‬حتى‭ ‬الظلم‭ ‬يذرف‭ ‬الدمع‭ ‬عليها،‭ ‬لكنَّ‭ ‬ورقةً‭ ‬واحدةً‭ ‬وصلتهُ‭ ‬خلافاً‭ ‬للتوقعات؛‭ ‬قلبتْ‭ ‬حياتهُ‭ ‬رأساً‭ ‬على‭ ‬عقب؛‭ ‬وكانت‭ ‬أول‭ ‬ورقة‭ ‬خضراء‭ ‬تلمسها‭ ‬أصابعهُ‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬التسعينيات،‭ ‬والورقة‭ ‬الخضراء‭ ‬التي‭ ‬أعنيها‭ ‬هي‭ ‬العملة‭ ‬النقدية‭ ‬من‭ ‬فئة‭ ‬مئة‭ ‬دولار‭ ‬أمريكي‭ ‬والتي‭ ‬يطلق‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬تسمية‭ ‬ورقة؛‭ ‬لا‭ ‬أدري‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬التاجر‭ ‬أو‭ ‬الكائن‭ ‬الماكر‭ ‬الذي‭ ‬أطلق‭ ‬هذه‭ ‬التسمية‭ ‬لأول‭ ‬مرة،‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬غرابة‭ ‬أو‭ ‬استهانة‭ ‬بتلك‭ ‬العملة‭ ‬النقدية‭ ‬الثمينة؟‭ ‬تلك‭ ‬الورقة‭ ‬الخضراء‭ ‬صارت‭ ‬بقبضة‭ ‬يده‭ ‬بظرف‭ ‬مادي‭ ‬قاهر‭ ‬كان‭ ‬يعيش‭ ‬عذاباته‭ ‬وحرمانه‭ ‬جميع‭ ‬العراقيين‭ ‬إلاَّ‭ ‬ما‭ ‬ندر‭ ‬بسبب‭ ‬الحصار‭ ‬الاقتصادي‭. ‬كان‭ ‬حصول‭ ‬العائلة‭ ‬الفقيرة‭ ‬على‭ ‬ربع‭ ‬ورقة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬يعني‭ ‬تأمين‭ ‬قوتها‭ ‬لمدة‭ ‬شهر‭ ‬وأكثر؛‭ ‬فكيف‭ ‬سيكون‭ ‬الحال‭ ‬مع‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬وقد‭ ‬صارت‭ ‬بحوزته‭ ‬ورقة‭ ‬خضراء‭ ‬كاملة؛‭ ‬أجل‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬معهُ‭ ‬حين‭ ‬جاءت‭ ‬والدته‭ ‬رحمها‭ ‬الله‭ ‬والفرحة‭ ‬تغمر‭ ‬وجهها؛‭ ‬لتخبره‭ ‬أنَّ‭ ‬مكالمة‭ ‬وصلت‭ ‬من‭ ‬بغداد‭ ‬على‭ ‬هاتف‭ ‬المنزل‭ ‬تطلب‭ ‬حضوره‭ ‬لاستلام‭ ‬حوالة‭ ‬نقدية،‭ ‬صعقهُ‭ ‬الخبر‭ ‬حتى‭ ‬كادت‭ ‬العبرات‭ ‬تنفجر‭ ‬من‭ ‬عينيه‭ ‬أمام‭ ‬مرأى‭ ‬زوجته؛‭ ‬لكنَّهُ‭ ‬تمكَّن‭ ‬من‭ ‬وأد‭ ‬دموع‭ ‬الغبطة‭ ‬كمن‭ ‬يقتلُ‭ ‬حلماً‭ ‬وردياً‭ ‬في‭ ‬خاطره‭ ‬مرغماً‭. ‬ظلَّ‭ ‬متسرنماً‭ ‬أمام‭ ‬أمه‭ ‬وزوجته‭ ‬وأخته‭ ‬وزوجها‭ ‬وقد‭ ‬استولى‭ ‬عليه‭ ‬الذهول؛‭ ‬فليس‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬صديق‭ ‬في‭ ‬الخارج‭ ‬وما‭ ‬أكثرهم‭ ‬قد‭ ‬وعده‭ ‬مثلاً‭ ‬بإرسال‭ ‬حتى‭ ‬عشرة‭ ‬دراهم‭ ‬لهُ،‭ ‬وهكذا‭ ‬سافر‭ ‬إلى‭ ‬بغداد‭ ‬على‭ ‬عجل‭ ‬بعد‭ ‬أنْ‭ ‬استدان‭ ‬أجرة‭ ‬النقل‭ ‬من‭ ‬زوج‭ ‬أخته،‭ ‬إذْ‭ ‬كانت‭ ‬جيوبه‭ ‬مليئة‭ ‬بالحسرات‭ ‬والآهات‭ ‬ليس‭ ‬إلاَّ،‭ ‬ولا‭ ‬أثر‭ ‬حتى‭ ‬لدينار‭ ‬واحد‭ ‬في‭ ‬جوفها؛‭ ‬أجل‭ ‬كان‭ ‬بحالة‭ ‬يرثى‭ ‬لها‭ ‬وهو‭ ‬حديث‭ ‬عهد‭ ‬بالزواج؛‭ ‬بالوقت‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يفترض‭ ‬المباشرة‭ ‬كنادل‭ ‬في‭ ‬مطعم‭ ‬شعبي‭ ‬صباح‭ ‬الغد؛‭ ‬غير‭ ‬أنَّ‭ ‬النبأ‭ ‬السار‭ ‬الذي‭ ‬حملته‭ ‬والدته‭ ‬دعاهُ‭ ‬إلى‭ ‬إرجاء‭ ‬ذلك‭ ‬العمل‭ ‬والانطلاق‭ ‬إلى‭ ‬بغداد‭ ‬التي‭ ‬وصلها‭ ‬عند‭ ‬الضحى؛‭ ‬ومن‭ ‬تلفون‭ ‬عمومي‭ ‬هاتف‭ ‬الرقم‭ ‬الذي‭ ‬تركهُ‭ ‬المتصل‭ ‬لدى‭ ‬والدته،‭ ‬ليستمع‭ ‬إلى‭ ‬صوتٍ‭ ‬يافعٍ‭ ‬بلهجةٍ‭ ‬بغداديةٍ؛‭ ‬كانت‭ ‬نبرتهُ‭ ‬رقيقة‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬الثراء؛‭ ‬طلب‭ ‬منهُ‭ ‬الحضور‭ ‬أمام‭ ‬معرض‭ ‬بغداد‭ ‬الدولي،‭ ‬وقد‭ ‬استفهم‭ ‬من‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬عن‭ ‬الملابس‭ ‬التي‭ ‬يرتديها‭ ‬حتى‭ ‬يستدلُّ‭ ‬عليه؛‭ ‬أجابه‭ ‬وهو‭ ‬غير‭ ‬مصدق‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭:‬

‭- ‬أرتدي‭ ‬قميصاً‭ ‬أصفر‭ ‬اللون‭.‬

كان‭ ‬قد‭ ‬استعارهُ‭ ‬من‭ ‬زوج‭ ‬أخته‭ ‬أيضاً؛‭ ‬ما‭ ‬أنْ‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬المكان‭ ‬حتى‭ ‬تقدَّم‭ ‬شاب‭ ‬نحوه؛‭ ‬يبدو‭ ‬على‭ ‬هندامه‭ ‬الترف‭ ‬وأخذ‭ ‬بيده‭ ‬إلى‭ ‬شارع‭ ‬أنيق‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الحارثية،‭ ‬طلب‭ ‬منهُ‭ ‬إثبات‭ ‬شخصية‭ ‬فوضع‭ ‬بيده‭ ‬هوية‭ ‬اتحاد‭ ‬الأدباء،‭ ‬تمعَّنَ‭ ‬فيها‭ ‬ثم‭ ‬سألهُ‭ ‬بإعجاب‭:‬

‭- ‬حضرتك‭ ‬شاعر؟

‭- ‬نعم‭.‬

‭-  ‬مرسل‭ ‬الحوالة،‭ ‬هل‭ ‬يمتُّ‭ ‬لك‭ ‬بصلة‭ ‬قربى؟

‭ ‬ردَّ‭ ‬عليه‭ ‬وقد‭ ‬نفدَ‭ ‬صبره‭:‬

‭- ‬في‭ ‬الواقع؛‭ ‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬من‭ ‬أرسل‭ ‬لي‭ ‬الحوالة‭.‬

أجابهُ‭ ‬الفتى‭ ‬وعلى‭ ‬وجهه‭ ‬طيف‭ ‬ابتسامة‭ ‬مطمئنة‭:‬

‭- ‬الذي‭ ‬أرسل‭ ‬الحوالة‭ ‬يُدعى‭ ‬هاشم‭ ‬معتوق‭.‬

‭ ‬تنفَّس‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬الصعداء‭ ‬واهتزَّ‭ ‬قلبه‭ ‬من‭ ‬الحبور؛‭ ‬احتاج‭ ‬لبرهةٍ‭ ‬قبل‭ ‬أنْ‭ ‬يقول‭:‬

‭- ‬هو‭ ‬صديقي‭ ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬يقيمُ‭ ‬في‭ ‬فنلندا‭.‬

‭ ‬وضعَ‭ ‬الشاب‭ ‬بيده‭ ‬الورقة‭ ‬الخضراء‭ ‬ليخبرهُ‭ ‬بحرصٍ‭:‬

‭- ‬هذه‭ ‬الورقة‭ ‬طبعة‭ ‬حديثة‭.‬

‭- ‬ماذا‭ ‬يعني‭ ‬ذلك؟

‭ ‬أدرك‭ ‬الشاب‭ ‬أنَّ‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬يجهل‭ ‬في‭ ‬تصريف‭ ‬العملة؛‭ ‬فنصحه‭ ‬قائلاً‭: ‬

‭- ‬يعني‭ ‬أنَّ‭ ‬تصريفها‭ ‬إلى‭ ‬الدينار‭ ‬العراقي‭ ‬سيكون‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الورقة‭ ‬القديمة‭.‬

ثمَّ‭ ‬تجرأ‭ ‬ليسألهُ‭ ‬بوقاحةٍ‭:‬

‭ – ‬مثقَّف‭ ‬ولا‭ ‬تعرف‭ ‬بتصريف‭ ‬العملة؟

بنبرةٍ‭ ‬مختنقةٍ‭ ‬من‭ ‬الدهشة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تسكنهُ‭ ‬تلك‭ ‬اللحظات‭ ‬قال‭:‬

‭- ‬هذه‭ ‬أول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬حياتي،‭ ‬أرى‭ ‬بها‭ ‬هذه‭ ‬العملة‭ ‬النقدية‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭ ‬وألمسها‭ ‬بيدي‭.‬

‭- ‬كان‭ ‬الله‭ ‬بعونك‭.‬

انصرف‭ ‬الشاب‭ ‬الميسور‭ ‬وترك‭ ‬الكائن‭ ‬المُعدم‭ ‬مرتبكاً؛‭ ‬كأنَّهُ‭ ‬شعر‭ ‬بضياع‭ ‬الورقة‭ ‬من‭ ‬جيبهِ‭ ‬بغتةً؛‭ ‬فقرر‭ ‬وضعها‭ ‬في‭ ‬جيب‭ ‬آخر‭ ‬أكثر‭ ‬أماناً،‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬انتابهُ‭ ‬القلق‭ ‬وخشيَ‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬السقوط؛‭ ‬حتى‭ ‬استقر‭ ‬الأمر‭ ‬أخيراً‭ ‬على‭ ‬حشرها‭ ‬في‭ ‬قبضة‭ ‬كفِّهِ؛‭ ‬لكنَّ‭ ‬راحة‭ ‬يده‭ ‬تعرَّقتْ‭ ‬فاحتاط‭ ‬على‭ ‬الورقة‭ ‬الخضراء‭ ‬من‭ ‬التلف‭ ‬ليعود‭ ‬ويدفنها‭ ‬في‭ ‬جيب‭ ‬القميص‭ ‬الأصفر‭. ‬كان‭ ‬يتحسس‭ ‬الورقة‭ ‬بأطراف‭ ‬أصابعه‭ ‬بين‭ ‬حين‭ ‬وآخر‭ ‬طيلة‭ ‬الطريق‭ ‬من‭ ‬بغداد‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬كربلاء‭ ‬خشية‭ ‬على‭ ‬الورقة‭ ‬الخضراء‭ ‬من‭ ‬الطيران‭ ‬أو‭ ‬التبخر؛‭ ‬لما‭ ‬دخل‭ ‬إلى‭ ‬منزل‭ ‬بيت‭ ‬أخته‭ ‬سارع‭ ‬لوضع‭ ‬الورقة‭ ‬الخضراء‭ ‬بين‭ ‬دفتي‭ ‬المصحف‭ ‬الكريم،‭ ‬وارتمى‭ ‬على‭ ‬فراشه‭ ‬والدموع‭ ‬تنهمر‭ ‬تترى‭ ‬من‭ ‬عينيه،‭ ‬فتلك‭ ‬الورقة‭ ‬الخضراء‭ ‬كان‭ ‬تحويلها‭ ‬إلى‭ ‬الدينار‭ ‬العراقي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬يساوي‭ ‬ربع‭ ‬مليون‭ ‬دينار‭ ‬وربما‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك؛‭ ‬وحين‭ ‬سألتهُ‭ ‬عروسهُ‭:‬

‭- ‬هل‭ ‬ستذهب‭ ‬إلى‭ ‬المطعم‭ ‬لمباشرة‭ ‬العمل‭ ‬غداً؟

أطلقَ‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬ضحكة‭ ‬صادحة؛‭ ‬كأنَّها‭ ‬طردت‭ ‬خفافيش‭ ‬الإملاق‭ ‬والحرمان‭ ‬من‭ ‬الحجرة‭ ‬وأجابها‭ ‬بثقة‭ ‬راسخة‭:‬

‭- ‬أي‭ ‬عمل؛‭ ‬أنا‭ ‬ربع‭ ‬مليونير‭ ‬الآن،‭ ‬هل‭ ‬تفهمين؟

 


مشاهدات 51
الكاتب حسن‭ ‬النواب
أضيف 2024/10/28 - 6:07 PM
آخر تحديث 2024/10/28 - 8:16 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 414 الشهر 12037 الكلي 10041760
الوقت الآن
الإثنين 2024/10/28 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير