الشُّعوبيَة والشّعبويَّة.. لكلٍّ زمنه
رشيد الخيّون
يعيد اِصطلاح «الشَّعبوبيَّة» اليوم إلى الأذهان الحركة «الشُّعوبيَّة» في الأمس البعيد، مع أنَّ كلاً له زمنه ودلالته، كلاهما منحوتان مِن «الشَّعب» و«الشُّعوب». نَعتَ البعضُ بالشَّعبويَّة الرئيسَ الأميركيّ دونالد ترامب، في حملته الانتخابيّة الأولى (2016)، هجاءً لا مديحاً، وتزامناً نُعت بها المصوتون على «بريكست» (2016)- خروج بريطانيا مِن الاتحاد الأوربي- وأخذ اللَّفظ يُطلق على كلّ مَن يُظهر في خطابه تواضعاً ومزاجاً شعبياً، بحكم معاداة «النّخبة».
يأتي، بعد وحدة اللفظ، بين الشّعوبيّة قديماً، في التاريخ الإسلاميّ، والشَّعبويَّة حديثاً، في التّاريخ الأوروبيّ، الاستخفاف بالنّخبة. تبنى الشُّعوبيّةَ شعراءٌ ومثقفون، مِن غير العرب ضد العرب، يوم مثّل العرب النُّخبة، في السّياسة والأدب. كذلك تبرز «الشَّعبويَّة» لتحطيم النُّخب، أو الخطاب النّخبوي، وعمرها يرقى إلى القرنين مِن الزَّمان، وقد حار المنظِّرون في تعريفها، لذا لم يجعلوا لها مكاناً بين المصطلحات السّياسيَّة.
أمَّا الشّعوبيّة فحُسم أمرها حال ظهورها، ارتبطت بالحط مِن العرب، فالشُّعوبيون «يصغرون شأن العرب» (الزَّمخشريّ، أساس اللُّغة)، وعندها قيل: «لا تقل بقول الشّعوبيَّة، أراد الموالي، الذين لا يحبون العرب، ولا يقرون بفضلهم، فإنَّ قولهم بدعة وخلاف» (الكرميّ، مسبوك الذَّهب).
لهذا، عندما واجه أحدُهم النّسابةَ هشام الكلبي (ت: 204)، بسؤال: «لِما سمت العرب أبناءها بكلب وأوس وأسد وما شاكلها، وسمت عبيدها بيسر وسعد ويُمن؟ قال (ابن الكلبيّ) وأحسن: لأنها سمَّت أبناءَها لأعدائها، وسمّت عبيدها لأنفسها» (الثَّعالبي، فقه اللغة).
كذلك واجه الجاحظ (ت: 255ه) الشُّعوبيين، مع أنه كان عربياً بالموالاة لقبيلة كنانة، وليس كنانيَّ الأصل، وذلك عندما أكثر الشُّعوبيون مِن ثلب العرب: «إنك متى أخذت بيد الشّعوبي، فأدخلته بلاد الأعراب الخُلُّص، ومعدن الفصاحة التَّامة، ووقفته على شاعر مفلِق (مبدع)، أو خطيب مِصقع (فصحيح البيان)، عَلم أنَّ الذي قلت هو الحقّ، وأبصر الشَّاهد عِياناً، فهذا فرقُ ما بيننا وبينهم» (البيان والتبيين).
يطلب الجاحظ من الشُّعوبيين المغالين، النَّظر في أحوال بقية الأُمم، فسيخففوا مِن شعوبيتهم ضد العرب، قال: «لو عرفوا أخلاق أهل كلِّ مِلة، وزيّ أهل كلِّ لغةٍ وعللِهم، على اختلاف شاراتهم وآلاتهم، وشمائلهم، وهيئاتهم.. لأراحوا أنفسهم، ولخفت مؤونتهم، على ما خالطهم» (نفسه).
كانت المعركة حامية الوطيس، بين الشُّعوبيين والمعارضين لهم، لكنَّ القصة لا تخلو مِن فعل ورد فعل، فعدد مِن النَّسابين العرب أنكروا على الشُّعوب فضلهم (كان يشار لغير العرب بالشعوب وللعرب بالقبائل، عندما فسروا الآية: و(جعلناكم شعوباً وقبائلَ)، وقد ورد في الحديث: «أنَّ رجلاً أسلم مِن الشُّعوب» (ابن منظور، لسان العرب)، فالكل صاروا مِن أصول عربيّة. لذا، قال شاعر محسوب على الشُّعوبيَّة: «متى كانت الأتراك أبناء مذحجٍ/ إلا أنَّ في الدُّنيا عجيباً لمَن عَجب» (ابن الجوزي، الرّسائل). جعلوا بالمقابل علماء وفقهاء مِن أصول عربية أعاجمَ (انظر: معروف، عروبة العلماء المنسوبون إلى البلدان الأعجميَّة).
كل ما تقدم، مِن الشعوبيّة، جوهره مواجهة «النُّخبة» لصالح «الشُّعوب»، والنخبة هم العرب، وخصوصاً في العصر الأمويّ. كذلك نجد «الشعبويّة»: فكرة الشّعب مقابل النُّخبة. بدأ تداول هذا اللفظ أواخر القرن التاسع عشر، في روسيا وأميركا، وعُرف حسب قاموس «بوتي روبير» بالقول: «خطاب سياسيّ موجه إلى الطَّبقات الشَّعبيَّة، قائم على انتقاد النّظام، ومسؤوليه، والنُّخب» (تقرير مفصل لـ«فرانس 24»).
إذا كانت الشعوبيّة، أُخذت بالعنصريّة ضد العرب، والمقصود الطبقات المتنفذة آنذاك، على أنها صوت الشُّعوب (غير العرب)، وأكثريتهم مِن سُكان البلدان المفتوحة، فقد ورد في تعاريف «الشّعبويَّة» أنها «صوت الشَّعب» ضد النُّخبة الحاكمة، على أنها ارتبطت في بداية الأمر بحركة الفلاحين الروس الاشتراكيَّة. لكن يبقى كلٌّ له زمنه ووسائله، ولم يخل الاثنان بإطلاقهما، مِن الحط بالمقصودين بهما. هذا، ونختم بأجزل الشّعر وأنبله: «حببتُ الناسَ والأجناسَ: مذ شاركنا، الأحباشُ، والبربرُ، والزِنْجُ، بأحزانٍ وأعراسْ» (الجواهريّ، حببتُ الناس).
*كاتب عراقي