حسن النواب
بدأتُ أنشر قصائدي مع بداية الحرب في صفحة النافذة الثقافية لجريدة العراق، ليغدو اسمي مألوفاً في الوسط الثقافي بعد عام، لكنَّ ديدني الذي ظلَّ يشغلني هو أنْ أكون معروفاً لدى أبي قتيبة موظف استعلامات اتحاد الأدباء والذي كان يقف عصر كل في بذلته الزيتونية مثل حربة في خاصرتي كلما نويت الدخول إلى نادي الأدباء، ولطالما تركني مصلوباً لساعات في الاستعلامات على أمل حضور أحد الأدباء ممن يعرفني ويدخلني كضيف على مائدته. ولكن عندما قرأ اسمي فوق قصيدتي المنشورة في جريدة العراق؛ رقَّ قلبه وبات يسمح لي بالدخول أحياناً حين يطول انتظاري لأديب حتى أدخل بضيافته إلى النادي، وكثيراً ما كنتُ أدخل ضيفاً على شرف الشاعر كمال سبتي الذي كان يؤدي خدمته العسكرية كمصحح في جريدة القادسية. لقد كان مبنى اتحاد الأدباء بزمن الجواهري وقوراً رصيناً مهيباً وعسيراً على الطارئين، ولولا الجواهري لما كان هناك اتحاد أدباء في العراق، وهو الشاعر نفسه الذي جاء بعبد الكريم قاسم لأمسية في اتحاد الأدباء وخاطبه بما يليق بكبرياء شاعر أمام زعيم. هذا الاتحاد فقد رسالته الإبداعية وتحوَّلَ إلى منظمةٍ خانعةٍ تتلقَّى الأوامر والتوصيات من قبل الطاغية بعد غياب الجواهري، وإذا كان اتحاد الأدباء قد حافظ على بعض ملامح الإبداع خلال رئاسة عبد الأمير معلَّة رحمه الله؛ لكنَّ رصانة الاتحاد أصبحتْ في الحضيض حين جاء الأرعن عدي بجوقة من الفتيان لإدارة اتحاد الأدباء وكنت صديق بعضهم، بل كلهم أصدقائي؛ في ذلك الجو المشحون بالخوف والتهديد والوعيد تبدَّلت الهيئة الإدارية لاتحاد الأدباء وأمسك بزمام الأمور فتية آمنوا بربهم كما قال عنهم تلفزيون الشباب حين ذاك، وبدأوا بتوسيع بناية الاتحاد وإجراء بعض الترميمات عليها؛ لكنَّ أحدهم كان يعرف من أين تؤكل الكتف؛ إذْ كان يلجأ إلى تقديم فاتورة بمئات الآلاف من الدنانير بين أسبوع وآخر بحجة سحب المياه الثقيلة؛ للحد الذي بلغت أجرة سحب المياه الثقيلة من إسفين المرافق الصحية إلى ملايين الدنانير خلال شهر واحد؛ ولا أدري هل كانت فضلات الأدباء الجائعين والذين يفتك بهم الحصار في ذلك الوقت بهذا الإسراف؛ الواقع كانت تتم السرقات تحت مظلة تلك الفواتير الزائفة وما أكثرها في عهد أولئك الفتية الذين عاثوا وفعلوا ما أنزل به الخداع والزيف من سلطان تحت وصاية ابن الرئيس، صحيح أنهم في ذلك الوقت فسحوا المجال أمام المتمردين من الأدباء الشباب ليمرحوا ويسرحوا ويعبروا عن سخطهم لكنَّ بعضهم غنموا منافع لا حصر لها تحت ذريعة كسبهم الأدباء الشباب إلى خيمة الدولة. ثمَّتْ (هكذا يكتبها الشاعر سعدي يوسف بالتاء الطويلة وليست المربوطة) تناقضات ومفارقات عجيبة حدثت في تلك الفترة، فالذين كانوا في لجنة الثقافة والإعلام ومن حاشية الرئيس والحرس القديم للحزب سرّحوا من مناصبهم وصاروا يجلسون في مقهى حسن عجمي بلا عملٍ أو عند كشك مؤيد عبد القادر، بينما ظهرت زمرة من الشبان يقودون الثقافة العراقية من رأسها حتى أخمص قدميها؛ ليلحق بهم نقاد من طراز المخضرمين الذين كان يحسب لهم فيما مضى ألف حساب وصاروا يتملقون هؤلاء الفتية الذين آمنوا بابن الرئيس. اختلط الحابل بالنابل، واصبحت الثقافة العراقية «فوضى بغير أوانها» كما جاء بعنوان لديوان شاعر من لحم السلطة وأكتافها صدر في ذلك الوقت الحرج؛ بينما أصبح الحصار أكثر شراسة ولؤماً؛ إذْ أصبح منح رزمة ورق أسمر للكتَّاب من قبل اتحاد الأدباء هي مكرمة من الرئيس؛ للحد الذي نُشرتْ أسماء الأدباء الذين يستلمون بنداً من الورق الأسمر في صحف الدولة الرسمية وكنت أحدهم. هكذا أصبح حال اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، وفي لحظ نزق أعلن الأرعن عدي عن إلغاء التجمع الثقافي الذي كان يضمٌّ نقابتي الصحفيين والفنانين واتحاد الأدباء؛ فتخلَّى الفتية الذين آمنوا بالأرتل المدلَّل عن مناصبهم لتغدو بناية الاتحاد فندقاً بخمس نجوم لرئيس الاتحاد القادم من محافظة بعيدة؛ والذي اختاره عبد الغني عبد الغفور وزير الثقافة والإعلام برغم أنف أعضاء المجلس المركزي في لقاء عقده في مقر الوزارة. كنتُ أحد الحاضرين في ذلك اللقاء لفوزي بعضوية المجلس المركزي مع صفوة الأدباء العراقيين في ذلك الوقت؛ وقد شكَّلَ فوزي صدمة عنيفة لقائمة البعثيين وزمرة الأرعن عدي؛ وهكذا ظلَّ اتحاد الأدباء يعيش فترة مظلمة هي من أسوأ الفترات التي مرَّ بها، إذْ بدأ اتحاد الأدباء يفقد شخصيته شيئاً فشيئاً، وبات ناديه أكثر سوءاً من حانة مبتذلة في الباب الشرقي، وجفاهُ الأدباء إلاَّ أولئك الذين يشربونَ ابنة الكروم مجاناً بصفتهم الإدارية، أو لأنهم أعضاء في المكتب التنفيذي؛ فتراهم بإقامة دائمة هناك، ولما كنتُ في ذلك الوقت لا أجد مأوى عندما يقفل نادي الأدباء أبوابه، لجأتُ إلى التظاهر بخروجي من النادي مبكراً أمام مسؤولي الاتحاد؛ بينما في حقيقية الأمر كنتُ أحمل بطحة ابنة الكروم مع ليمونة أضعهما في جيبي، واتسلَّل من خلل الستائر الحمراء التي تفصل القاعة عن البار لأحشر جسدي تحت كراسي قاعة المحاضرات؛ أمضي سهرتي هناك حتى يطلُّ الفجر؛ وأحيانا حتى شروق الشمس؛ لأخرج بعدها من نافذة مكسورة إلى حديقة الاتحاد ومنها الى متاهات بغداد، كنتُ قد تعوَّدت على ذلك وبتُّ ألجأ لهذه الوسيلة مع كزار حنتوش وجان دمو كلما ضاقت بنا سُبل المأوى، بينما كان نصيف الناصري يذهب لمنزله، وهو الوحيد الذي يعرف أين مأوانا، ولذا يحضر مبكراً ليوقظنا من نومتنا تحت مقاعد القاعة؛ خشية من افتضاح أمرنا. يتبع…