أدرك جيداً أنَّ هذا المقال الذي سأنشره على ثلاث حلقات؛ سيقود إلى ردود أفعال كثيرة نحوي، وربما من أعنيهم سيلوذون بصمت مهزوم؛ لأني سألقم أفواههم بحجر صادق لا غبار عليه، مادام شهود العيان من النبلاء مازالوا يتنفسون هواء الإبداع والحياة. ولكن قبل أن يشهر البعض أقلامهم على صعلوك مثلي؛ عليهم بالتريث قليلاً حتى أفرغ من نزف أوجاعي وأبثُّ ما في رأسي من جنون الذكريات التي تضاهي الحقيقة التي يعرفونها ويطمرونها لمصالح ومنافع رثَّةٍ أصبحتْ مكشوفة حتى للبصير، ولهم الحق بعد ذلك أنْ يصلبوني في ساحة اتحاد الأدباء وأموت رجماً بكؤوس الخمر الفارغة؛ مثلما تفعل دولة مجاورة لنا حين ترجم بالحجارة كل من خرج عن طاعتها وتمرد على زيفها حتى يهلك أمام الناس. كان اتحاد الأدباء بالنسبة لي ومازال معبداً مقدَّساً تقودني أماسية الساحرة وسجالي مع الأصدقاء في كل ليلةٍ إلى التحليق نحو فردوس السماوات بدون مراسيم دينية؛ ولذا عندما وطأت قدمي أوَّل مرَّة عتبة بابه المقدَّسة أواخر السبعينيات وجفَ قلبي وارتجف بدني وتعرَّقَ جبيني؛ ولما دخلت إلى قاعته كاد يُغمى عليَّ، لأني أبصرتُ كوكبة الشعراء والأدباء والفنانين يجلسون على الكراسي المتواضعة، رأيتُ علي جواد الطاهر، ورشدي العامل بطاقيته الروسية الجميلة، وحسب الشيخ جعفر ويوسف الصائغ وموسى كريدي وخالد علي مصطفى وأحمد خلف وحاتم الصكر ومحمد خضير ومحمود عبد الوهاب قد جاءا من ثغر الجنوب، ومحمد علي الخفاجي وعلي الحلي، وعلي جعفر العلاق وثابت الآلوسي وعبد الجبار داود البصري ويوسف نمر ذياب، وعريان السيد خلف، وياسين النصير، وفاضل ثامر، وعناد غزوان وعبد الجبار عباس ومحسن جاسم الموسوي، وطراد الكبيسي، وحميد سعيد، وفهد الأسدي، ومحسن اطميش، ورافع الناصري، وشوكت الربيعي، وعبد الرحمن مجيد الربيعي وعبد الستار ناصر وعبد الاله الصائغ وعبد الرضا علي وقاسم محمد وخليل شوقي ويوسف العاني وغيرهم من الكواكب التي مازالت ساطعة في سماوات ذاكرتي، فارتبكت تماماً؛ ولم أصدق أني أجلس على كرسي في القاعة بينهم؛ ولما سمعت صوت الشاعر الذي يقرأ قصيدة عن غرفة يحيى جواد بصوته المشحون بالوداعة والشجن في آن واحد، كادت دموعي تسيل على خدي، وشعرتُ بهيبة المكان الذي دخلت إليه، بل خلتُ أنَّ أحداً سيقبلُ نحوي ويخرجني من المكان، لأني من أكون أمام هذه الكوكبة المضيئة بالإبداع، ولما كان دخول نادي الأدباء مستحيلاً في ذلك الوقت؛ مالم تكن من أعضاء الاتحاد، لم أجد سوى حانة رخيصة ومعزولة في الباب الشرقي لأمضي بها سهرتي في تلك الليلة، حدث ذلك في نهاية السبعينيات بعد تبخّر الجبهة الوطنية برمشة عين وضياع أحلامنا نحن الفتيان الذين أغرمنا بالراية الحمراء، لكن الذي أعجبني أنَّ رشدي العامل الذي كان يحرص على الجلوس في الصف الأول من مقاعد القاعة، ظلَّ يعتمر فوق رأسه قبعة تروتسكي ذلك المناضل النبيل الذي كانت تضحيته في روسيا تغازل تضحية الأمام الحسين ع في كربلاء. كأنَّ رشدي العامل بحرصه على وضع القبعة الروسية على رأسه؛ كان يقول لزمرة الأجلاف مازلنا هنا؛ ومضت السنوات حتى اشتعلت الحرب، لأعود مرة أخرى إلى اتحاد الأدباء. كانت هذه المرَّة بشفاعة القاص فهد الأسدي الذي كان يمتُّ لي بصلة قربى عن طريق أخيه أنيس المقترن بأختي التي رحلت معهما إلى سماوات الله، ربما يقول بعض الحاسدين والناقمين الآن: تبَّاً لك يا فهد؛ لأنك جئت لنا بكائنٍ لا يحتملهُ الصدق نفسه؛ وجلست مع رشدي العامل وياسين النصير وتوفيق الخياط ويوسف الحيدري القاص الكردي الجميل وحسين الحسيني بنظارته السوداء وقلبه الأبيض وحقيبته الدبلوماسية الملآى بما يخطر على بالك لحظة سُكر، كنتُ في تلك الجلسة أضعُ قصائد مرتبكة في جيبي، ولما طلبت من فهد أنْ يعرضها على رشدي العامل، ليقرأها بأناةٍ وبمتعة شاعر ثمل؛ وحين فرغ منها قال لي ما لا أنساهُ أبداً: – هذه قصائد أكبر من عمرك؛ لكنها بحاجةٍ إلى تجويد.
وهتفَ بلطفٍ على غلام الحانة حتى يأتي له بمزيدٍ من الخمر. لم أصدق أنَّ رشدي العامل قرأ خزعبلاتي وهلوساتي في تلك الليلة، فتركتُ المائدة أشبه بالمخبول؛ ولما استمر قدومي إلى اتحاد الأدباء في كل إجازة من الحرب، كنتُ انتظر طويلاً في باب الاستعلامات حتى يحضر القاص فهد الأسدي وأدخل بصحبته كضيف عليه إلى نادي الأدباء. صار ديدني كلما هبطتُ من حديقة النار زيارة اتحاد الأدباء، والأدق هو حلمي الدخول إلى ناديه بمفردي، وهذا يتطلَّب أنْ أكون أحد أعضاء اتحاد الأدباء، وكان ذلك الحلم أشبه بالمستحيل؛ إنْ لم يكن مستحيلاً في ذلك الوقت.
يتبع…