فاتح عبد السلام
هناك نظرية في العمل السياسي والاستخباري هي الاستثمار السريع في الخراب والفوضى. وهذه النظرية تبدو في سياق عمل إسرائيل اذ طبقتها في سوريا بعد هروب بشار الأسد وسقوط نظامه، وقامت بقصف وتدمير ما يمكن النيل منه في مجال القدرات العسكرية للدولة السورية تحت جنح الارتباك وحالة الفراغ في الايام الثلاثة الأولى. واليوم تندفع الولايات المتحدة ومعها دول اوربية منها المانيا وفرنسا في الدعوة الى إقامة دولة فلسطينية ضمن حل الدولتين الذي لم توافق عليه إسرائيل أصلاً، كما يجري الضغط لكي تكون السعودية أكبر دولة عربية خارج نطاق التطبيع منخرطة فيه تحت أجواء ملبدة وذات لون جديد من تبدل شكل المنطقة داخليا وخارجيا، لاسيما في سوريا وقطاع غزة ولبنان. في نفس الاتجاه هناك استعجال امريكي وفرنسي لاعلان شكل حكم في قطاع غزة لا تبدو السلطة الفلسطينية مهيأة له، ويخلو من اشتراك حركة حماس. ذلك ان مفاوضات ما يسمى لجنة “الاسناد المجتمعي” لغزة التي جرت في القاهرة في عدة جولات لم تصل الى نتائج حاسمة خارج معادلة الحركات الثلاث، حماس والجهاد والشعبية، مع اعتراضات أساسية من السلطة الفلسطينية.
حتى في العراق قبل أكثر من عشرين عاما، حدث فراغ أمني وسياسي في اليوم التالي للاحتلال الأمريكي، وجرت تحت سقف ذلك الفراغ عمليات استخبارية وتصفيات ومررّت قرارات سياسية لا يزال أثرها السيء واضحاً حتى اليوم في تركيبة النظام السياسي القائم. بل انّ العملية السياسية ذات المناقص والمفاقس والمنزلقات هي نتيجة مباشرة عن الاندفاع لبناء بديل كشكولي غير متجانس وجاهل لدولة قائمة كانت بحاجة لتنظيف جراحي ليس اكثر لتستمر بعدها دولة لا تنقصها هوية ولا تكون لقمة سائغة للصوص الداخل واستخبارات الخارج.
استنتج من خلال تجربة متابعة لتفاصيل التحولات السياسية في الشرق الاوسط والمنعطفات الدولية المنعكسة عليها، ان قطاع غزة لن يخلو من قواه السياسية التقليدية مهما كان الضغط عظيما لإزاحتها، ذلك انه مثلما يوجد مستثمرون دوليون لفرض واقع معين بعد هذا الخرب والدمار، فإن هناك قابلية متاحة لاستثمار داخلي مضاد في البيئة ذاتها.
ولعلّ التصورات الامريكية والدولية تعيش تناقضا كبيرا حين يذهبون في اليوم الأول لهدنة غزة الى تجريد القطاع من اثر قواه السياسية في الحكم، في حين رأيناهم في اليوم الأول من تحرير سوريا، يندفعون لمنح من الفئات المستفيدة والاقل ضررا من الأقليات في سوريا حصة في حكم جديد وصلت اليه الأغلبية بدماء جيل كامل على مدى أربعة عشر عاماً.