بين “ريفيرا ترامب” و”ريفيرا سهيل سامي نادر”، لا نبوءة كالأدب، ولا سخرية تشع هادفة إلا في قلبه.
فجر هذا اليوم، فكرت بالكتابة عن مشروع “ريفيرا غزة” الذي طرحه ترامب، لكنني لم أجد مدخلًا مناسبًا. فجأة، جاءني العون من بعيد (وربما من قريب)، من آخر عمل قصير منشور للصديق العزيز وأستاذي سهيل سامي نادر. إنها رواية قصيرة أو قصة طويلة حملت عنوانًا غامضًا: “الريفييرا العربي”. لم يكن هذا العنوان مجرد صدفة، فقد كُتب قبل ثلاثين عامًا، ونُشر قبل أحداث غزة الأخيرة التي بدأت في السابع من أكتوبر من العام قبل الماضي، لكنه مع ذلك استبق ما يحدث الآن. الأكثر إثارة هو أن أحد أبطال الرواية فلسطيني من غزة.
حينما بدأت قراءة “الريفييرا العربي”، سألت سهيل نادر (عبر الماسنجر) إن كان البيت الموصوف في الرواية هو نفسه بيته، خاصة مع الوصف المهيب الذي خصّه به. أجابني بالنفي، موضحًا أنه بيت يعود لقريب له يدعى عبد الرزاق، وقدم ما يشبه الاعتذار عن ظروف كتابة الرواية.
في القصة، يلتقي البطل العراقي، الذي أسماه الكاتب “غسق”، بفلسطيني يُدعى “عباس” في فندق رخيص وسط عمان. عباس، الفدائي الفلسطيني المتقاعد أو المهزوم، رجل طويل القامة، أسود البشرة، لا يتوقف عن شرب كؤوس الجن الممزوجة بالليمون والنعناع. يمنح هذا الفندق اسمًا خاصًا: “الريفييرا العربي”. هنا، داخل هذا المكان الذي بلا نجوم، تتوحد التواريخ المشتركة للمنطقة: فلسطين، العراق، الأردن، وغيرها. في هذا الفندق، تسير الحياة إلى الماضي:
”إن حياتي تجري في الريفيرا من الماضي، وليس العكس.”
أما “ريفيرا ترامب”، فلا يعرف الماضي. ببساطة، يجهله. التفكير بالتاريخ بعقلية المطوّر العقاري، كما يفعل ترامب وإيلون ماسك، يؤدي إلى الاصطدام بنتنياهو قبل الاصطدام بأي وقائع أخرى. فنتنياهو لا يستطيع الخروج من أوحال الخرافة، ولا يرى في غزة إلا ساحة حرب أبدية.
يقف في مواجهة الثلاثي ترامب-ماسك-نتنياهو ثنائي سهيل نادر: العراقي “غسق” وعباس الفلسطيني، الضابط الفتحاوي من غزة. الثلاثي الأول يفكر في الخواء وأرض بلا بشر، كل بطريقته:
ماسك، الباحث عن كوكب جديد بعدما نفض يديه من هذا الكوكب.
ترامب، الذي يرى غزة مجرد موقع سياحي بلا ملامح.
نتنياهو، الذي يرى في القنابل الكبرى وسيلة لمحاربة الأحياء وحتى الأموات تحت الأرض.
أما ثنائي سهيل نادر، فيتعايشان في غرفة صغيرة ضيقة، لكن التاريخ ينساب بين جدرانها، والحلم ينمو رغم كل اليأس.
يأتي المستعمرون والغزاة والمحتلون، ويذهبون، ولا يتركون سوى سوء الفهم. هذا السوء يتجلى في مفهومين أساسيين: التاريخ والحداثة. فكما أن الغرق في الماضي كارثي، فإن صناعة تاريخ جديد مثل الكتابة على الماء أو الريح أكثر كارثية، خاصة إذا كان هذا التاريخ كاذبًا مثل أوهام ترامب.
“غسق”، بطل “الريفييرا العربي”، عراقي يحاول الهجرة من بلاده هربًا من الحصار والديكتاتورية، وتتوقف رحلته في عمان، حيث يخطط للعبور إلى أمريكا حيث تقيم أخته “سميرة”. فجأة، يختفي عباس الفلسطيني، تاركًا له وصية بالعودة إلى العراق. العودة هنا ليست مجرد فعل، بل هي “الرقم السري للتاريخ العربي الحديث”.
يختصر “غسق” المشهد العراقي آنذاك قائلًا:
”كنا في ثقب أسود صنعته دورة صدام على نفسه، ودورة أمريكا حول العراق. الاثنان سينجذبان نحو الهوة.”
واليوم، ما زالت أمريكا تدور حول تلك الهوة.
يرتب “غسق” أوضاعه للعودة، رغم معرفته بما تخطط له أمريكا في العراق، لكن فجأة يظهر له أخ غائب، فاضل، الذي يعيش في أمريكا. فاضل هو “ثقب جديد داخل الثقب الأمريكي الأكبر”، وهو – من وجهة نظري – يمثل القوى السياسية التي تعاملت مع الاحتلال الأمريكي، بغض النظر عن مبرراتها.
قبل كل ذلك، يتبنى غسق أسلوبًا خاصًا أسماه “التطنيش الفلسطيني”، وهي ليست هروبًا من الواقع، بل تكيف بين التيه والعودة.
بين “ريفييرا ترامب” حيث لا تاريخ، و**”الريفييرا العربي”** حيث كل شيء ينتمي إلى الماضي، تتحرك الأحداث. لكن حين يصطدم الثقب الأمريكي بصخرة العودة، لن تكون العودة مجرد شعار، بل مصير لا مفر منه، سواء إلى العراق، إلى فلسطين، إلى غزة… أو ببساطة، إلى الذات، وإن طال الطريق.