الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
رمضان آخر زمن

بواسطة azzaman

هاشتاك الناس

رمضان آخر زمن

ياس خضير البياتي

 

عندما يحل شهر رمضان علينا، يأتي كالضيف العزيز الذي ننتظره بشغف وحماس. إنه ليس مجرد مدة زمنية في التقويم الهجري؛ بل هو رحلة روحية مليئة بالتأمل والتجديد. تأخذنا أجواؤه الروحانية إلى عوالمَ من السكينة والسلام؛ فتملأ قلوبنا وأركان بيوتنا بالطمأنينة

إنها فرصة ذهبية للتطهير الروحي، والتأمل في قيم الصبر والتعاون والتضحية، والتحدي والتغيير. نسعى من خلالها لتطوير أنفسنا والتخلص من السلبيات، لنُظهر أفضل نسخة من أنفسنا للعالم

يا له من شهر عظيم! شهر الصدقة والإحسان والصدق والرفق، حيث تهدأ النفس وتُعطى الهدايا، وتهب الأيادي بسخاء. إنه شهر الجود والعطاء، والتواصل والإحسان؛ حيث تمتنع الأيدي عن المعاصي؛ فلا تعتدي، ولا تسرق، ولا تضرب، ويمتنع اللسان عن الكذب والنفاق والغيبة والنميمة. لقد أصبحنا عبئًا على أنفسنا بأفعالنا السلبية، وبالفتن، والبغضاء، والتنابز بالألقاب غير اللائقة

شهر رمضان هو شهرٌ لتصفية النفوس من شوائب الأحقاد، وتنشيط الدورة الدموية؛ ليساهم في القضاء على أكسدة الدم الفاسد في أوردة أرواحنا، ونقل الأكسجين النقي إلى عقولنا. إنه فرصة لعلاج تصلُّب شرايين الشر التي تتراكم في جدران حياتنا؛ مما يمنع تدفُّقَ الخير في سلوكياتنا.

وإذا كنت ترغب في دخول رمضان بهمّة عالية؛ فلا بد من ممارسة تمارين العزيمة والهمّة، فهذه التمارين تُعد استعدادًا حقيقيًا وعمليًا قبل حلول الشهر الكريم. تخيل أن يكون صيامك مصحوبًا بسلوك إيجابي ومعاملات إنسانية راقية، وأن تُعطي مما أعطاك الله! بينما ربك (الأكرم) يمنحك عطاءً لا ينقطع ولا يفنى. إن معاني وفلسفة رمضان تمتد أبعد من مجرد الكلمات والألفاظ؛ فمن «رحم في رمضان فهو المرحوم، ومن حُرِم خيره فهو المحروم، ومن لم يتزوّد لمعاده فيه فهو ملوم.» 

 العيش في هذا الشهر يعني استحضار نية التحدِّي والتنافس في شتى مجالات الخيرات. إنه دورة تأهيلية مكثفة؛ حيث نعيش نحو ثلاثين يوماً مليئة بالصدقات والبر والعطاء. إنه وقتٌ الصيام عن النفاق والنميمة. كما يجب ألا نصوم الصيام الشكلي فقط؛ وهو أن تكون المعدة فارغة تلبية لنداء الرب؛ بينما العقل يكون مشحونًا بأفكار النفاق المدمر

عندما يحل شهر رمضان كل عام، يذكّرني بأمور كثيرة. لقد أصبح هذا الشهر اليوم عادة اجتماعية تفتقر إلى المحتوى الإيماني والتعبُّدي. فلقدْ فقَدَ روح المعنى الأصيل للتديُّن الحقيقي، وتلاشت الفطرة الإنسانية البسيطة التي كانت مرتبطة بعقول آبائنا الأقدمين

لقد كانت موائد رمضان تجمع الأهل والجيران على مودة الألفة والتضامن الاجتماعي. يتحول الحي إلى أسرة واحدة، تتبادل المحبة مع أطباق الكرم؛ حيث تسكن فطرة العبادة والتقرب إلى الله سرًّا في البيوت، وتتأجج أواصر العلاقات الاجتماعية بوهجها المتألق في الأماكن الشعبية

كما يذكرني هذا الشهر الفضيل بقسوة قلوب بعض الناس وجشع التجار، كما يزداد الظالم ظلماً، والغشاش غشاً، وآكل الربا يزداد أكلًا له، والسفيه تزداد سفاهته، والغني يزداد بُخلاً. كما يُذكّرني أيضًا بتجمع الناس حول موائد الإفطار التي تُمول بالمال الحرام!، حيث يذبحون الذبائح من سرقات القرن والكهرباء والدولار، ومن منافذ الحدود، فضلاً عن فتاوى النهب ومعاشات الفقراء والمتقاعدين؛ وكل ذلك -ويا للعجب -باسم الأنبياء والأئمة الأطهار، يُحلون الحرام ويُحرمون الحلال!

في شهر رمضان تتباين بداية الشهر الكريم وعيد الفطر بين أفراد الأمة الإسلامية. فقد أصبحت هذه المسألة تُعبر عن تباين طائفي بامتياز، حيث أصبح لدينا هلالان: أحدهما ينطلق من زاوية طائفته الضيقة، والآخر يراه بالعين المجردة أو من طريق فتاوى الاجتهاد. لقد أغفلنا العقل والعلم وركضنا وراء التفرقة؛ مما جعل الأمم الأخرى تضحك علينا باستخفاف. يا أمةً ضحكت من جهلها الأمم

في كل عام، تزداد أعداد المسلسلات والتكاليف المالية؛ مما يؤدي إلى تزايُد الإسفاف والابتذال والانحراف. وأصبح شهر رمضان في نظر الأجيال الجديدة هو شهر المسلسلات؛ حيث تم تغيير وصف شهر رمضان في الصحف ووسائل الإعلام من «موسم الطاعة والعبادة» إلى «موسم الدراما التلفازية المعتادة»! 

كما تلاحظ وطنًا يكثر فيه المساجد؛ لكنك لا تجد فيه المشاريع الخيرية إلا نادرًا. ستجد نفسك محاطًا بمنافق يُثرثر كثيرًا عن الدين والسلوك والأخلاق، ولص يسلب وطنك في وضح النهار، ثم يدعوك في الوقت نفسه للتقوى والطهارة والعبادة وممارسة طقوس العبادة شكلًا بالجسد -لا بالقلب-! 

الموجز: شهر رمضان ليس مجرد التفاخر بالامتناع عن الأكل والصلاة في المسجد، أو إقامة مجالس الكرم (الزائف)، وزخرفة البيوت بالنشرات الضوئية والآيات القرآنية والدعوات الشكلية. أيضًا، ليس من الدين أن يكون كل شهر رمضان هو الذهاب إلى (العزومات) والسحور في مقاهي الشيشة، أو قضاء ساعات أيامه في مشاهدة المسلسلات التي تُثير الأحقاد والعنف والفتن والفساد، والبحث عن التفاهات الرقمية.

حكمة شهر رمضان: جهاد النفس بالابتعاد عن المنكرات، وتمرينها على تأمل الحياة والانضباط، وتعزيز حب البشرية والشعور بآلام الآخرين وحاجتهم للعيش بكرامة. ومن المهم أن نتذكر ضرورة التحلِّي بالإيثار والإنسانية والرحمة والمودة، التي يجب أن تفيض خلال شهر الصيام والقيام؛ فشهر رمضان هو الحياة وما بعد الحياة، فلا أجمل ولا أروع من هندسة جسر للفقراء من الأمل على نهرٍ من اليأس.

 

yaaas@hotmail.com

 

 

 


مشاهدات 84
الكاتب ياس خضير البياتي
أضيف 2025/03/02 - 3:26 PM
آخر تحديث 2025/03/04 - 9:50 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 524 الشهر 2130 الكلي 10463079
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/3/4 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير