حسن النواب
في الغربة وفي المهاجر؛ يرتفعُ مؤشر الحنين إلى البلاد في كل مناسبة دينية؛ وخاصة في شهر رمضان، وبرغم وجود جميع المستلزمات المطلوبة لهذا الشهر الكريم هنا في منافينا ومهاجرنا، من طعامٍ سابغٍ وحلوياتٍ فاخرةٍ وفواكهٍ طازجةٍ، غير أنَّ جميع هذه المغريات لا نكهة لها بقدر مذاق الطعام في وطنك، ولذا ترى الناس هنا في المهاجر تحاول وتجتهد لتصنع ما هو شبيهاً للحلويات والنواشف والخبز والطرشي والأطعمة في بلدانها وأوطانها، وحتى لو نجحت بصناعة ما يشتهيه الصائم على المائدة الرمضانية هنا في الغربة، لكن هل بوسعها أنْ تسمع صوت الأذان وهو يتعالى من منائر المساجد والجوامع؛ وكلنا يعرف أنَّ سماع صوت أذان الغروب في رمضان له منزلة خاصة لدى المؤمنين، ولكَ أنْ ترى العوائل في الأحياء الشعبية وهم يقفون على عتبات بيوتهم أو فوق السطوح؛ بانتظار سماع صوت الأذان أو مدفع الإفطار إيذاناً بتناول فطورهم بمشهد إنساني تجد فيه الكثير من الإيمان والألفة والمحبة والتقوى، بينما هنا ربما تجد هناك مسجد في ولاية ما من دول الإقامة يتجمع فيه المهاجرون؛ بينما جوامعنا ومساجدنا في الوطن والدول الإسلامية تجدها في أبعد قرية؛ وهنيئاً لمن يسمع صوت الأذان في منفاه أو مهجره البعيد. في الواقع جُلَّ ما أخشاهُ أنْ يفطر أهلنا في أوَّلِ يوم من رمضان هناك في البلاد على صوت ناشز لتصريح برلماني فاسد ومنافق وملعون في الدنيا والآخرة بدلاً من إفطارهم على صوت شجي لابتهال ديني رمضاني، بينما هنا في الغربة ربما نفطر على صوت موسيقى الجاز المنبعثة من الحانات والملاهي بدلاً من الإفطار على صوت التراويح والأدعية الشجية التي تزقُّ الروح برعشات الاطمئنان والسعادة والإيمان. وهنا في المهجر كثيراً ما نشتاقُ إلى المسحراتي الذي منزلتهُ خاصة في أفئدة الصائمين، فهو أبرز الشخصيات الرمضانية وجزءاً مهماً من تقاليد الشهر الفضيل؛ إذْ يتولَّى مهمة إيقاظ الناس لتناول وجبة السحور قبل أذان الفجر، ويجوب شوارع وأزقة الأحياء والحارات حاملاً طبلته الصغيرة أو طبلاً ضخماً يُسمَّى( الدمَّام) ومنادياً بأعلى صوته (قوموا إلى سحوركم، رمضان جاء يزوركم) بالتناوب مع قرعه على الطبل بدقتين أو ثلاث؛ والمسحراتي مهنة قديمة قدم التاريخ تعود إلى عهد الني محمد(ص) وكان الصحابي بلال بن رباح أول من قام بهذه المهمة؛ إذْ كان يؤذن للفجر مرتين آنذاك، وكان يجوب الطرقات حاملاً بيده قنديلاً ليراه الناس ويجذب انتباههم ؛ مؤذناً لإيقاظ الناس للسحور بصوته العذب، وعندما يحين وقت الإمساك عن الطعام كان صاحبه عبد الله بن مكتوم يؤذن الفجر ليمتنع الناس عن الطعام والشراب. كما يعصف بنا الحنين هنا في المهجر لتلك الزيارات التي تقوم بها العوائل العراقية إلى المراقد المقدسة في الأعظمية والكاظمية وكربلاء وسامراء والنجف؛ في كل خميس من رمضان والتي لا يمكن أنْ تجد مثيلاً لها في بلدان الغربة حتى لو كنت تعيش في أجمل بقاع العالم، ذلك أن تلك الزيارات المباركة تكون مصحوبة بإفطار شهي في صحن أحد الأولياء الصالحين في تلك المراقد المقدسة ويا له من إفطار يحلم به كل غريب ومهاجر عن وطنه. كل هذه الطقوس الحميمة يفتقدها الإنسان المنفي والمهاجر هنا في الغربة، ولذا اذكرونا هناك في البلاد؛ عندما تسمعون أذان الغروب، واذكرونا مع ترتيل الأدعية السجاديَّة وصلاة التراويح، واذكرونا عندما تجلسون في المقاهي الشعبية؛ واذكرونا عندما تتبارون في لعبة (المحيبس) ويا لفرحة الفريق الذي يعثر على الخاتم؛ ويا لحزن الفريق الذي يخسر؛ لكنَّهُ حزنٌ سرعان ما يزول، بينما أحزان ومكابدات الغريب المهاجر تلازمه في كل حين طالما يشتاق إلى وطنه، حين يتذكر تفاصيل طفولته في الحارات الشعبية في شهر رمضان المبارك، فحنين واشتياق الغريب والمهاجر إلى رمضان في الوطن صلاة سادسة؛ لا يؤدي طقوسها سوى الغرباء عن أوطانهم، أجل رمضان موحش وحزين وغريب مثلنا هنا في المهاجر؛ نحن الأغراب عن أوطاننا، فكلما أفطرنا هطل الدمع من الأحداق حنيناً للبلاد.