الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
السرد القرآني: بناءٌ يتجاوز الزمن.. قراءة في قصة الذين فرّوا حذر الموت


السرد القرآني: بناءٌ يتجاوز الزمن.. قراءة في قصة الذين فرّوا حذر الموت

سماح علي الشمري

 

ليست الحكاية في القرآن الكريم مجرد سردٍ للأحداث، كما أن الكلمات ليست مجرد أوعية للوعظ، بل هي بنيةٌ سردية محكمةٌ، تتداخل فيها العقيدة مع الفن، والتاريخ مع الرمز، والواقع مع المجاز، في تشكيلٍ يتجاوز الزمن ويتحدى القارئ في كل عصرٍ أن يفهمه وفق منظوره، ثم يكتشف أن المنظور نفسه قد خُدع، وأن الحكاية أعقدُ وأعمقُ من أن تُقرأ قراءةً عابرة. خذ مثلًا قصة الذين فرّوا من الموت، أولئك الذين غادروا ديارهم مذعورين، يظنون أن النجاة تكمن في الهروب، فكان الفرار ذاته طريقًا إلى الفناء، هؤلاء الذين جاء ذكرهم في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: 243] إن هذه الجملة القرآنية، بقدر ما تبدو عليه من الإيجاز، بقدر ما تنفتح على احتمالات سردية لا نهائية. فالنص، إذ يلقي بحكايته في كلماتٍ معدودة، لا يخسر شيئًا من قوته الحكائية، بل يزداد توهجًا. فيبدأ المشهد بحشدٍ بشري هائل: "وَهُمْ أُلُوفٌ"، في إشارةٍ إلى أن الحدث ليس مجرد موقفٍ فردي، بل تجربة جماعية، خوفٌ مشتركٌ يحكم هذه الألوف، وهنا تبرز أولى العناصر السردية في تشكيل النص السردي القرآني وهي (الشخصية)، ومن ثم تبرز دوافع الفعل السردي وأسبابه، وهناك دافعٌ واحدٌ يسيّر هؤلاء الألوف وهو: "حَذَرَ الْمَوْتِ". فنحن أمام مأساة مكتملة الأركان: شخصيات، صراع داخلي، قرار مصيري، ثم ذروة الحدث حين يتدخل العنصر الذي لم يكن في حسبانهم: "فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا". وهذه في النقطة المفصلية التي شكلت ضربةٌ صاعقة، ليست فقط سرديًا، بل وجوديًا أيضًا. فالموت، الذي هربوا منه، لحق بهم، لكن ليس كواقعة طبيعية، بل كحكمٍ مباشر، كنقضٍ كاملٍ لفكرتهم عن التحكم في المصير. ثم يأتي التحول الكبير الذي لا نعرف مدى سعته الزمنية إلا من خلال 'ثم' التي تفيد التراخي وتمنحنا تصورا متكاملا حول وجود فترة زمنية طويلة تحولت بها العظام إلى تراب تذروه الريح كما يعبر الطبري ومجاهد وغيرهم من علماء التفسير، ذلك التحول ولد مع قوله تعالى: "ثُمَّ أَحْيَاهُمْ"، فتلك هي المفارقة التي تنقض الحدث من جذوره، وتترك السؤال معلقًا في الهواء: كيف؟ متى؟ لماذا؟ لكن النص، في عبقريته السردية، لا يجيب، بل يترك الفراغ مفتوحًا، ليملأه القارئ بتأويلاته، فيصبح جزءًا من الحكاية، يطارد الفجوات، يعيد تشكيل القصة في مخيلته، دون أن يدرك أنه قد وقع في فخّها السردي، حيث الاقتصاد اللغوي لا يعني اختزال الفكرة، بل تكثيفها حتى تصير أكبر من أن تُحكى، ولو أننا أردنا إعادة سرد القصة وفق الأنماط الأدبية المعتادة، لاحتجنا إلى صفحاتٍ طوال، نحلل فيها الأسباب والدوافع، ونفسر المفارقة، ونتتبع تفاصيل الموت والبعث، ونحاول أن نضبط إيقاع الحكاية بما يُشبع نهم القارئ. لكن القرآن يفعل ذلك كله بجملةٍ واحدة، كأنه يحرق المراحل ليصل إلى الجوهر فورًا، إن هذا النمط السردي لا يُشبه أي بناءٍ تقليدي، فهو ليس نصًا تاريخيًا يُخبرك بما كان، وليس قصة رمزية محضة، وليس مشهدًا مستقلًا عن سياقه العام. إنه سردٌ يملك من الدهاء ما يجعله يتجاوز حاجز الزمن، ليظل حاضرًا في كل عصر.

ويكمن الإعجاز السردي القرآني في قدرة النص على إلغاء الحاجة إلى التفاصيل الزائدة، إذ يعتمد على التلقي النشط للقارئ، فيترك له مساحة لإكمال المشهد بعقله وخياله، مما يجعله مشاركًا في عملية إعادة إنتاج القصة. هذه التقنية، التي لم تعرفها السرديات الكلاسيكية في شكلها الأكاديمي، تمثل إحدى أقوى نقاط التفوق البلاغي للنص القرآني، ولهذا، فإن دراسة السرد في النص القرآني لا يجب أن تقتصر على التحليل البلاغي، بل يجب أن تُقرأ ضمن مشروع نقدي أوسع، يعيد النظر في كيفية بناء القصة، وكيف يمكن للاقتصاد اللغوي أن يكون أداة فاعلة لإنتاج نصوص قادرة على تجاوز زمنها، والعيش في وعي الأجيال المتعاقبة.


مشاهدات 88
الكاتب سماح علي الشمري
أضيف 2025/03/03 - 2:31 PM
آخر تحديث 2025/03/04 - 8:01 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 443 الشهر 2049 الكلي 10462998
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/3/4 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير