تفكيك ادعاء "اختراع" الرواية القصيرة جداً: دفاع عن الوعي الأدبي والتاريخي
حميد عقبي
تتعدد الأجناس الأدبية تبعًا لتحولات الوعي الإنساني وتغيّر أدوات التعبير، ولكن من الخطأ اختزال هذه التحولات بادعاء اختراع أجناس أو أنواع جديدة، وكأنها قفزت من العدم. في السنوات الأخيرة، راجت مزاعم حول "اختراع" الرواية القصيرة جداً في العالم العربي، وتحديدًا من بعض الكتّاب الذين يخلطون بين الاجتهاد المشروع والادعاء المفرط، مما يستدعي وقفة نقدية تضع الأمور في سياقها الصحيح.
الرواية القصيرة جداً: أصل لا اختراع
الرواية القصيرة جداً ليست اختراعاً، بل تطوّر طبيعي داخل جنس الرواية، ارتبط بتحولات جمالية ومعرفية منذ منتصف القرن التاسع عشر. كتب أنطون تشيخوف نصوصًا يمكن تصنيفها ضمن هذا الشكل، كما أنتج كافكا، وهمنغواي، وستاينبك نصوصًا تتسم بالتكثيف السردي والاقتصاد في اللغة، وهو ما يُعد من صلب شروط هذا الجنس. وقد نُشرت لهم كتب استُخدم فيها مصطلح يمكن ترجمته إلى العربية بـ"الرواية القصيرة جداً".
النوفيلا في المصطلح العربي تُترجم إلى "رواية قصيرة"، والنوفيلا القصيرة إذًا تكون "رواية قصيرة جداً"، وهذا لا يحتاج إلى نقاش أو مضيعة وقت في جدل عقيم لا مبرر له. ولا يمكننا أن نلغي ستة قرون أو أكثر منذ ولادة جنس الرواية في العالم لندّعي أننا، كعرب، اكتشفنا نوعًا جديدًا. هناك، طبعًا، حقيقة معروفة أن جنس الرواية له أصول شرقية، يرجعها البعض إلى ملحمة جلجامش كأول نص سردي في الكون، ثم عشرات الملاحم في الهند ومصر وغيرها، وهذه حقيقة يعترف بها الغرب ولا ينكرها.
ولكن في عالمنا العربي، في القرن التاسع عشر، حدث خلط بين مفهوم الرواية والمسرحية والقصة؛ فقد كانت المسارح تقدّم أعمالًا مسرحية ويُكتب على بعضها "رواية شكسبير"، مثل روميو وجولييت. وقدّمت الإذاعة المصرية روايات كثيرة تحت عنوان "مسرحيات"، وروايات تحت اسم "قصص"، وهكذا بدأت الدراسات النقدية العربية السردية تحاول مواكبة المفاهيم النقدية والأدبية العالمية. ونحن نحتاج إلى جهد للحاق بما يحدث في العالم، ليس بابتكار مصطلحات، بل بالإبداع وتطوير أساليبنا الكتابية والنقدية.
الرواية القصيرة جداً، بما تحمله من بنية درامية مضغوطة، وشخصيات محددة، وتحولات زمنية، ودلالات كثيفة، هي جزء من تطور طبيعي للأدب السردي، وليست قفزة مفاجئة. ومن ثمّ، فإن نسبتها إلى شخص واحد أو ثقافة واحدة هو تقزيم لهذا التاريخ وتزييف معرفي.
من أين جاءت التسمية؟
مصطلح "very short novel" أو "micro-novella" معروف في النقد الأدبي الغربي منذ عقود، ولا يحتاج من يكتب في هذا المجال إلى "اختراعه" من جديد. بل إن هذه المصطلحات حين تُترجم إلى العربية بصيغة "الرواية القصيرة جداً"، فهي ترجمة طبيعية ودقيقة للسمات العامة لهذا الجنس، ولا تعني أن من يستخدمها من الباحثين أو الذكاء الاصطناعي متخلف أو جاهل.
إن الترجمة لا تصنع اختراعاً، كما أن الذكاء الاصطناعي حين يستخدم المصطلح لا يزعم الريادة. ولا يمكننا أن نطالب النقاد حول العالم بأن يرفقوا المصطلح الأجنبي بترجمته العربية لاعتراف ما أو شرعنة زائفة.
الادعاء بأن أحد الكتّاب العرب هو أول من طبع كتابًا بعنوان "رواية قصيرة جداً" لا يعني أنه أول من كتب هذا النوع، ولا يمنحه صكّ الريادة المطلقة، بل يدخل ضمن سلسلة من المحاولات العالمية والعربية السابقة.
الإبداع لا يحتاج إلى تبرير استهلاكي
من المؤسف أن بعض مناصري هذا الشكل يبررونه بأنه يساير زمن السرعة و"الذائقة الحديثة"، فيضعونه في خانة الوجبات السريعة لا الفن العميق. الأدب ليس تطبيقًا رقميًا ولا خدمة توصيل، بل هو شكل من أشكال المقاومة الجمالية للسطحي والعابر.
الرواية القصيرة جداً في الأدب العربي: مساهمة لا ريادة فردية
نعم، ثمة كتّاب عرب كتبوا في هذا النوع، ومنهم من أبدع فيه، لكن لا أحد يمكنه أن يدّعي ريادة مطلقة أو اختراعًا. يوسف إدريس، إحسان عبد القدوس، نجيب محفوظ، وغيرهم، كتبوا نصوصًا مكثفة يمكن تصنيفها ضمن هذا الإطار.
لا صكوك اختراع في الأدب
الرواية القصيرة جداً جنس أدبي قائم وله خصوصيته، لكنه ليس اختراعًا عربيًا ولا إبداعًا فرديًا. من حق أي كاتب أن يبدع فيه، ومن واجبنا كقرّاء ونقّاد أن نقرأه بعين فاحصة لا تُصفّق للألقاب بقدر ما تمتحن النصوص.
فالأدب لا يحتاج إلى أبٍ مؤسس، بل إلى مبدعين حقيقيين.
لقد آن الأوان أن نُخرج النقاش من دائرة الادّعاء والتصنيف المغلق إلى أفق الإبداع الحرّ والمسؤول. فالأجناس الأدبية لا تُخترَع من شخص، ولا تُؤسَّس من فراغ، بل تُصاغ وتتطوّر عبر تراكم التجارب، وثراء الرؤى، وتفاعلها مع الوعي الجمعي.
ندعو كل من يكتب الرواية القصيرة جداً أو أي نوعٍ آخر، أو يشتغل عليه نقدًا وتنظيرًا، أن يُنصت للنص لا لصدى صوته، وأن يحتكم إلى الكتابة ذاتها لا إلى العناوين والأغلفة والشعارات. فالحاجة اليوم ليست إلى معارك لفظية تُستهلك في تضخيم الأنا، بل إلى إبداع يوسّع من إمكانيات الأدب، ويمنح قارئ اليوم ما يستحقه من عمق وجمال.
اكتبوا بحبّ، اكتبوا بشغف، ودَعوا النصوص تتكلّم عنكم. فالإبداع لا يرفع راية... بل يترك أثرًا.