تفكيك العنف وتجديد مناعة الدولة
طالب محمد كريم
عبر التاريخ، كانت مفردة “العنف” تُستخدم في الخطاب العام بوصفها نقيضاً للمدنية، وعدواً للديمقراطية، وشبحاً يُهدِّد استقرار الدول والمجتمعات. وكلما اشتدّ الجدل السياسي أو ارتفعت نبرة المعارضة، أُشهرت هذه الكلمة في وجه كل صوت خارج عن السائد، حتى باتت تُوظَّف كأداة قمعية أكثر مما هي مفهوم تحليلي. لذلك فإن أول ما يلزمنا عند الحديث عن العنف، هو تجريده من التوظيفات المصلحية، وسحبه من فضاء الإدانة الجاهزة إلى فضاء التفكيك النقدي، دون أن يعني ذلك تبريره أو الترويج له. فثمة فرق جوهري بين من يبرر العنف وبين من يفككه، تماماً كما أن الطبيب حين يشرح آلية المرض لا يعني أنه يؤيده، بل يسعى لفهمه بغية علاجه.
فالعنف ليس ظاهرة واحدة، بل يتعدد ويتشعب بتعدد السياقات التي ينشأ فيها. ثمة عنف فردي يعبّر عن اختلالات نفسية أو اجتماعية، وثمة عنف بنيوي تمارسه الدولة حين تُقصي أو تُهمّش أو تُجرّم من دون عدالة، وهناك عنف رمزي يمرّ من خلال اللغة والخطاب والإعلام، ويؤسس لمجتمع طارد للاختلاف. وتحت هذه الأنواع المختلفة، تختبئ طبقات من الظلم، والتوتر، والاحتقان المتراكم، لا يمكن تفكيكها عبر المواقف الأخلاقية فقط، بل عبر أدوات معرفية ومنهجية قادرة على كشف البنية التي تنتج هذا العنف وتعيد تدويره.
وفي سبيل توضيح ذلك، يمكن استعارة نموذج من علم الأحياء: فكرة جهاز المناعة في جسم الإنسان. فكما أن هذا الجهاز مصمم لتمييز الأجسام الغريبة عن خلايا الجسد السليمة، ولحمايته من الفيروسات والتهديدات، فإن الدولة، كمؤسسة سياسية واجتماعية، تمتلك بدورها جهازاً مناعياً يتمثل في المؤسسات الأمنية والقضائية والقانونية والثقافية التي تُعنى بحماية النظام من التهديدات. ولكن كما أن جهاز المناعة قد يختل، فيُصاب الجسم بأمراض ذاتية أو يصبح غير قادر على مقاومة العدوى، فإن الدولة أيضاً قد تُصاب بخلل في جهاز مناعتها، فتتحول أدوات الحماية إلى أدوات قمع، وتفقد القدرة على التمييز بين العدو الحقيقي والناقد الوطني، أو بين الفساد البنيوي والمعارضة البنّاءة.
وحين تصاب الدولة بهذا النوع من الخلل، تظهر علينا أعراض متعددة: قمع الحريات باسم الأمن، تخوين الخصوم باسم الوطنية، تفكيك المجتمع باسم الحفاظ على الدولة، وتجريم الأفكار باسم حماية الهوية. في هذه اللحظة، تتشابه الدولة مع الجسد الذي يهاجم خلاياه السليمة، في ما يُعرف بالأمراض المناعية الذاتية. ويغدو النقدُ فعلاً خطراً، والمثقف خلية متمردة، والمعارضة تهديداً وجودياً، والإعلام الحر قنبلة موقوتة. وفي حالات أخرى، تُصاب الدولة بالعجز، كما في متلازمات نقص المناعة، حين تفشل في التصدي للفساد، أو الوقوف بوجه الانهيار الاقتصادي، أو منع التدخلات الخارجية، فتغدو الدولة جسداً مريضاً لا يملك الدفاع ولا الهجوم.
أسباب هذا الخلل كثيرة ومعقدة. فحين تسود نظرية المؤامرة، يصبح كل شيء مشكوكاً فيه، ويُبنى جهاز المناعة على أساس الارتياب، لا على أساس الوقائع. وحين تحتكر فئة ضيقة من النخب السلطة والمعرفة والثروة، فإنها تعيد برمجة الدولة بحيث تعمل لمصلحتها، وتقصي ما سواها، فتنتج مناعة مشوّهة تخدم أصحاب القرار لا عموم المواطنين. وحين يضعف التعليم والإعلام، ويتراجع دور الفكر والمثقف، تُصاب الدولة بعمى معرفي يمنعها من رؤية الأخطار القادمة أو تشخيص الأزمات المتراكمة. وحين تُملى السياسات من الخارج، تُعاد برمجة مناعة الدولة من جديد، فتصبح تصنيفات الأصدقاء والأعداء خاضعة للإملاءات الدولية، لا للمعايير الوطنية.
لكن هذا لا يعني أن جهاز المناعة السياسي غير قابل للتجديد. بل إن أولى خطوات العلاج تكمن في استعادة التوازن بين الحماية والحرية، بين الأمن والكرامة، بين سلطة الدولة وحقوق المجتمع. وتلك ليست مجرد شعارات، بل مشروع إصلاح جذري يبدأ من إعادة تعريف “التهديد” بشكل علمي وموضوعي، وتنقية الخطاب السياسي من لغة التخوين والاحتقار، وتمكين القضاء من أن يكون حصن العدالة لا أداة العقوبة، وإحياء الحياة الثقافية والفكرية لتكون بمثابة “اللمفاويات” التي تحلل وتكشف وتحذر وتبني. كما يتطلب ذلك إصلاح التعليم ليُنتج مواطنين أحراراً، لا مجرد أتباع، وتطوير الإعلام ليصبح ناقلاً للمعرفة لا مجرد مرآة للسلطة، ودعم النخب الجديدة التي تسعى للترميم لا للتوريث.
إن الدولة لا تُشفى من عللها بالهروب من النقد، ولا بالهجوم على المصلحين، بل بالفهم العميق لبنيتها الداخلية، ومسببات خللها، وكيفية إصلاح جهازها المناعي السياسي. فالتاريخ مليء بدول كانت قاهرة لشعوبها، ثم انهارت فجأة حين تحوّل جهازها المناعي إلى أداة قتل ذاتي. وقد سبق لابن خلدون أن نبّه إلى مثل هذه اللحظة الحرجة، حين وصف الدولة في طورها الأخير، وقد تفسخت عصبيتها، واستُهلكت مقومات بقائها من الداخل، فانقلبت عناصر القوة إلى أسباب ضعف. في المقابل، هناك دول مرّت بمراحل مرضية حادة، لكنها شُفيت عندما امتلكت الإرادة المعرفية لإعادة بناء نفسها من الداخل، وحرّرت مناعتها من التزييف، ومكّنت العقل من أن يكون هو الطبيب لا الأداة القمعية.
ليس كل عنف مؤامرة، وليس كل معارضة فتنة، وليس كل مثقف خائناً، وليس كل نظام خالداً. لكن كل دولة ترفض الإصغاء لعقلها، وتُقصي خيالها، وتشيطن من يحذرها، هي دولة تمضي بخطى ثابتة نحو مرض عضال. وما من علاج لذلك إلا بفهم حقيقي لجهاز المناعة السياسي، وإرادة شجاعة لإصلاحه قبل أن يستفحل الخلل ويصعب الشفاء.