أيقونة الشعر العراقي تضيء سماء الحداثة بجائزة العويس
لهيب عبدالخالق
يأتي فوز أستاذي الشاعر الكبير حميد سعيد بجائزة سلطان العويس تتويجًا لمسيرة شعرية متينة، حافظ خلالها على قيمة الشعر بوصفه فعلًا جماليًا وفكريًا رفيعًا، وارتقى بلغته وأساليبه إلى مصاف التجارب الكبرى في الشعر العربي والعالمي الحديث. إنه تكريم لتجربة شعرية غنية، صاغت ذاتها بين الحنين إلى الوطن، وتوق الإنسان إلى المعنى، والاحتفاء بالحياة عبر جماليات اللغة.
وشعر حميد سعيد لا يقتصر على توثيق الخراب أو تسجيل الذاكرة، بل يقوم على بناء شعري دقيق ومتوازن بين الغنائية والتجريد، حيث يولد التوتر بين الحنين إلى الماضي المؤلم والراهن المتقلب نسيجًا لغويًا يحفظ للقصيدة ألقها، دون الانزلاق إلى غموض فارغ أو تكسير شكلي بلا هدف. في نصوصه يتداخل الشكل والمضمون في كيان عضوي، إذ لا يخدم الشكل التباهي التجريبي فقط، بل يعيد بناء القصيدة ككيان حي ينبض بالمعنى والحساسية.
ينسج حميد سعيد نصوصه ضمن شبكة محكمة من المعاني والرموز، فتتحول قصيدته إلى مرآة تعكس جرح الواقع وهموم الإنسان المعاصر، وفي الوقت ذاته تعبّر عن الحنين العميق إلى الوطن والذات. شعره يتوازن بين الغنائية التقليدية والتجريد الحداثي، مما يمنحه قدرة فريدة على الحديث بلغة متجددة وشاعرية في آن.
وبغداد، في شعره، ليست مجرد مكان جغرافي، بل شخصية حية ذات حضور وجودي ثاقب تختزل ذاكرة التاريخ والوجدان، تعبّر عن الحلم والألم، الهيبة والخراب، ككائن إنساني يرزح تحت وطأة الزمن. ليست حكاية مأساوية فحسب، بل استعارة لوجدان عربي متألم، لا يخضع للبكاء السهل أو النمطية، بل يطرح أسئلة وجودية عميقة حول الوطن والهوية.
تحمل لغة حميد سعيد الشعرية رؤية فلسفية تأملية، تتسم بالتركيز والإيجاز، وتبتعد عن الثرثرة أو التشويش، فتُبرز في نصوصه إحساسًا مكثفًا بالزمن والمكان، وتضع القارئ أمام مآلات الذاكرة والمصير. تعتمد قصيدته بناءً متماسكًا يجمع بين الإيحاء الصوفي والتأمل الفكري، لجعل النص الشعري حقلًا معرفيًا وجماليًا متداخلًا، حيث تنبض الصور في وعي الإنسان وتعكس عمق التجربة الإنسانية.
أما إنجازه فليس مجرد تراكم عددي للدواوين أو النصوص، بل تأسيس لخطاب شعري حديث متماسك، يواجه تحديات المعاصرة بثقة في قوة الشعر كمرآة للذاكرة وجسر بين الذات والعالم. هو صوت شاعري عراقي يتحدث بلغة عربية معاصرة، متجذرة في الثقافة والحداثة، محافظة على احترام الذات الشعرية، دون الانزلاق إلى الخطابات السهلة أو التجريدات المبهمة.
وبذلك يحتل حميد سعيد موقعًا مميزًا في فضاء الشعر العربي الحديث، كصوت قادر على المزاوجة بين العمق الإنساني والحداثة الفنية، جاعلًا من شعره مرآة دقيقة للمعاناة والجمال، للخراب والبقاء، وكأنه يؤسس لكتابة تعيد إنتاج الذات وبناء الوطن بكلمات تملؤها الدهشة والحلم.
إن فوز حميد سعيد بجائزة سلطان العويس ليس مجرد تتويج فردي، بل هو إشادة واحتفاء بمسيرة أدبية حافلة بالإنجازات ضمن المشروع العربي الحداثوي، الذي يسعى إلى تجديد الخطاب الشعري وتوسيع آفاقه الجمالية والفكرية.
كما أنه تأكيد على استمرارية الريادة العراقية في المشهد الشعري العربي الحديث، منذ أيام نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، وامتدادًا إلى جذور الشعر التي يعود تاريخها إلى حضارات وادي الرافدين، حيث كتب الإنسان أول حرف وأول كلمة.
هذا الفوز يعكس اعترافًا واسعًا بقيمة شعره كصرح ثقافي يحمل هموم الإنسان العربي المعاصر، وينسج تجربته الخاصة داخل نسيج الثقافة العربية الحديثة، محافظة على الأصالة ومتجددة في رؤاها.
إنه تكريم لتجربة شعرية متفردة، نجحت في توظيف الحداثة والتجريب بشكل يعزز المعنى ولا يفرغه، ويعيد للقصيدة دورها كفعل جمالي وفكري قادر على استشراف المستقبل والتعبير عن الذات الوطنية والإنسانية في آن واحد.
بهذا يصبح حميد سعيد صوتًا شعريًا عربيًا وعراقيًا حيويًا، يُثري فضاء الشعر العالمي الحديث ويؤكد على حيوية الشعر كفن إنساني خالد، ويجسد استمرارية إرث عريق من الإبداع الأدبي العراقي الذي يمتد عبر آلاف السنين، إنه فوز للعراقيين جميعا..