من باب الدرب إلى القصيدة.. سيرة وطنٍ في القلب
عبدالستار الراشدي
في قرية الجاسمية، باب الدرب، كانت البداية. هناك، بين نخيلٍ يهمس للريح، وبيوتٍ طينية تتنفس دفء الأهل، وُلدتُ على ضفاف الطفولة. كانت الأرض تعرفني، تعرف خطواتي الصغيرة وهي تتبع ظل أبي، وتعرف صوتي حين أركض خلف أقراني في الأزقة الضيقة، نضحك وننقش أسماءنا على جدران الزمن.
في الجاسمية، تعلمت أولى حروف الحياة، لا من الكتب، بل من وجوه الطيبين، من جدتي التي كانت تروي لي حكايات الليل، ومن أمي التي كانت تغزل لي الأمان في كل نظرة. هناك، كان للوقت طعم التمر، ورائحة الخبز الحار، وكان للسماء لونٌ لا يشبه أي سماء.
لكن الحياة لا تبقى ساكنة. حين بدأ والدي تنقله بين المدن بحكم خدمته العسكرية، بدأت أنا أيضًا رحلتي. انتقلنا إلى بغداد، المدينة التي بدت لي حينها ككائنٍ ضخمٍ لا ينام. في شوارعها، تعلمت أن أكون يقظًا، أن أراقب، أن أكتب في قلبي كل مشهدٍ جديد. كانت بغداد صاخبة، لكنها علمتني الجرأة، ووسعت مداركي.
ثم جاءت جلولاء، مدينةٌ مختلفة، فيها من الهدوء ما يعيد للروح توازنها. هناك، بدأت أكتب أولى محاولاتي الشعرية، أراقب النهر، وأتأمل الجبال، وأحاول أن أترجم ما أشعر به إلى كلمات. كانت جلولاء محطة تأمل، فيها نضجت بعض أحلامي، وفيها بدأت أعي أنني أبحث عن شيءٍ أعمق من مجرد تنقل.
وبعدها بعقوبة، المدينة التي احتضنتني في سنوات الدراسة الأخيرة. هناك، في جامعة ديالى، وجدت نفسي بين الكتب واللغة، بين الأصدقاء والأساتذة، بين الشعر والنثر. درست الإنجليزية، لكنني كنت أكتب بالعربية، أبحث عن ذاتي بين السطور، وأحاول أن أجد صوتي الخاص وسط ضجيج الحياة.
بعقوبة لم تكن مجرد مدينة، بل كانت مرآةً لما أصبحت عليه. فيها اكتملت ملامحي الفكرية، وتبلورت رؤيتي، وبدأت أستعد لمرحلةٍ جديدة، مرحلة الكتابة بصدق، والبوح دون خوف.
وفي خضم أربعة عقود من الخدمة في الحياة المدنية، تخللتها سنوات من الترحال العسكري غير المستقر، كان القلب يختزن شغفًا مؤجلًا، يتوارى خلف الأرقام والملفات، لكنه لا يخبو. ومع كل انتقال، كانت الكلمات ترافقني كظلال وفية، تهمس لي في لحظات الصمت، وتوقظ في داخلي حنينًا إلى عالمٍ آخر، أكثر دفئًا، أكثر صدقًا.
وحين هدأت العواصف، وانقشعت ضباب المهام الرسمية، وجدتني أندسّ في حضن الأدب، أتنفس شعره، وأرتشف نثره، وأتجول في أروقة القصص كمن عاد إلى بيته بعد غياب طويل. لم يكن الدخول إلى هذا العالم وليد صدفة، بل كان عودة إلى الذات، إلى موهبة كامنة، طالما انتظرت من يوقظها.
اختلاطي بأدباء كبار، من أصحاب التجارب العميقة والرؤى المتقدة، كان بمثابة المرآة التي رأيت فيها ملامح قلمي تتشكل، وتتهذب، وتكتسب نبرةً خاصة. تعلمت منهم أن الأدب ليس ترفًا، بل هو خلاص، وأن الكلمة حين تُصاغ بصدق، تصبح وطنًا، وملاذًا، وصرخةً في وجه الغياب.
وهكذا، بدأت رحلتي الجديدة، لا كهاوٍ، بل كمن وجد نفسه أخيرًا. واليوم، حين أعود بذاكرتي إلى الجاسمية، أشعر أن كل تلك المدن كانت امتدادًا لطفولتي، وكل خطوةٍ فيها كانت حجرًا في بناء ذاتي. من باب الدرب إلى قاعات الجامعة، ومن الخدمة إلى القصيدة، كانت الرحلة مليئة بالحنين، بالتحدي، وبالقصائد التي لم تُكتب بعد.