الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
أغنية الجنائن

بواسطة azzaman

أغنية الجنائن

 فراس عبد الحسين

 

في اللحظة الهشة التي تسبق انبلاج الحلم، حيث يمتزج غبار الأمس بضوء اليوم الخافت، كانت خطواتها تهمس على دروب الذاكرة البعيدة، كأنها تحاول إيقاظ صدىً مفقود من زمن غابر. لم يكن الهواء يحمل رائحة الكتب القديمة فحسب، بل كان مشبعاً بعبق السنين التي أمضتها في البحث، بينما روحها كانت مشبعة بفضول عميق يتجاوز مجرد المعرفة الأكاديمية، فضول يلامس حدود اليقين الذي طالما بحثت عنه. كانت تتبع خيوط الأسطورة، ليس مجرد خيوط مرئية، بل إحساساً داخلياً، متوغلة في طبقات الزمن، تُنقّب لا عن مجرد آثار باهتة خلفها الأوائل، بل عن إجابة تُشبع ظمأ قلبٍ تواقٍ للحقيقة المطلقة.

صاحبة الوجه البيضاوي الذي يحتله بريق غامض مثل ضوء نجمة بعيدة، وعينين واسعتين بلون العسل المحترق، فيهما نظرة بحث لا تهدأ، وكأنها تبحث عن شيء أضاعتْه منذ الأزل. ينسدل شعرها البني بحرية على كتفيها، وكأنه ظل سؤالٍ لا إجابة له، يتمايل مع كل همسة من همسات الريح. في صوتها هدوء يشبه مجرى نهر يعرف طريقه رغم تعرجاته الطويلة. لم يكن شغف د. ليلى بالتاريخ مجرد مهنة عابرة، أو تخصص جامعي فرضته الظروف، بل كان ذلك الارتجاف الصامت الذي يتملكها كلما قرأت سطرًا غامضًا في مخطوط قديم، أو لمحت رمزًا منسيًّا فوق حجرٍ أصم في متحف أو موقع أثري.

كانت تؤمن بعمق أن الحكايات القديمة لا تموت حقاً، بل تظل حية، تنتظر فقط من يصغي لها بصدق، ومن يمنحها الحياة مرة أخرى، لا بالحفظ الأبكم والنقل الآلي، بل بالفهم العميق الذي يتجاوز حدود الزمن ويلامس روح الحكاية ذاتها. هناك، بين الهواجس التي تداهمها في ليالي الأرق والأحلام التي تلوح كسراب، كانت تسير تلك الباحثة، التي يُشبه قلبها خارطةً معلّقة بين الماضي السحيق الذي يسكنها والحلم الآتي الذي لا تتوقف عن مطاردته. كانت رحلتها البحثية، في جوهرها، رحلة لاكتشاف الذات.

ومن بين كل عجائب بابل القديمة، كانت الجنائن المعلقة الأكثر استعصاءً على الفهم والوصول إلى حقيقتها. لم يكن هناك أثر مادي واحد يثبت وجودها بشكل قاطع، ولا نقش قديم يسمّيها بوضوح، ولا حتى مخطط معماري واحد يصف هندستها المعقدة بدقة. وكأنها قررت أن تكون حلمًا خالدًا، أسطورة لا تدركها العقول إلا بعد أن يسكنها الهوس. سنوات طوال من البحث المضني، من التنقيب الدقيق بين صفحات الكتب الغبراء وخرائط العصور المنسية، جعلتها تشعر أنها تطارد طيفًا، سرابًا لا يتجسد أبداً.

كان هذا الشغف يستهلكها، يحولها إلى ظل تائه في متاهة من الشكوك. كانت تسأل نفسها كل ليلة، تحت سقف غرفتها الصغيرة التي تضج بكتب التاريخ: "هل كانت الجنائن مجرد استعارة شعرية؟ ربما أسطورة نسجها عقل ملك مضطرب يبحث عن جمال لم يجده على أرض الواقع؟ أم أن هناك بالفعل من رآها وعاش فيها، وتلاشت ذكراها مع رمال الزمن؟" هذا السؤال الوجودي كان يثقل روحها كحجر صامت لا يُفلت، يوقظها في منتصف الليل ويأسر فكرها في وضح النهار.

في ذروة حيرتها العميقة ويأسها المتزايد، جاءتها دعوة غير متوقعة من متحف اللوفر في باريس، لحضور جلسة بحثية نادرة مخصصة للآثار البابلية، وعدت بتقديم معلومات جديدة. لم تتردد لحظة. حزمت حقائبها وسافرت، وقلبها يضجّ بمزيج غريب من خيبة أمل مريرة، جراء سنوات البحث التي لم تسفر عن شيء ملموس، ورجاء أخير قد يكون بوابة الخلاص التي تنتظرها. كانت تشعر بأن هذه الفرصة هي محاولتها الأخيرة.

في باريس، بدا كل شيء باردًا وأنيقًا بحدود مبالغ فيها. الأرصفة نظيفة لدرجة تثير القلق، والوجوه محايدة وخالية من التعبيرات العميقة، وكأن الزمن هناك لا يعترف بالفوضى الشرقية الخلاقة التي كانت تؤمن بأنها رحم الحضارات العظيمة ومهد الأسرار القديمة. لكن حين دخلت المتحف، تحديداً قاعة الآثار البابلية، تغير كل شيء ببطء. بين جدران القاعة الصامتة، خفّت الأصوات وتلاشت، وتحول صخب الزوار إلى همسات بعيدة، ثم إلى صمت مطبق.

هناك، بين التماثيل الضخمة والألواح الطينية، شعرت أن الحجارة تتكلم بصوت خفيض لا يسمعه إلا قلبها. وأن آثار بابل تنظر إليها بشوق بعيد، كأنها تنتظر عودتها، وتهمس لها بأسرارها المكنونة. أحست بانتماء غريب لم تعهده من قبل، وكأنها عادت إلى وطن لم تزره قط، لكنها تعرفه من قبل أن تولد. كان ذلك الإحساس نقطة تحول، لحظة أدركت فيها أن البحث ليس مجرد علم، بل هو رحلة روحية.

استقبلها الدكتور "جان"، رجل تجاوز الستين من عمره، نحيل القامة، له وجه طويل تتخلله تجاعيد عميقة تشبه أخاديد الزمن التي حفرت قصصاً لا تُعدّ. كانت عيناه الرماديتان تحملان حيرة الباحث الأبدي الذي لا يكتفي، وشغف العاشق الذي يذوب فيما يحبه، وكأنهما لا تسكنان الحاضر الباهت بل تتنقلان بلا توقف بين أطلال بابل وأسوار نينوى الشاهقة. لم يكن مجرد عالم آثار يجمع القطع الأثرية، بل كان مولعًا بحضارة وادي الرافدين بكل تجلياتها السومرية والأكدية والبابلية والآشورية، حد العشق والذوبان فيها، وكأنها جزء من روحه.

بعد أن عرف شغفها في البحث عن الجنائن، أخبرها بأنه يحتفظ بشيء غير معروض للجمهور، شيء يشبه السر، يخبئه عن الأنظار، لكنه، في نظره، أثمن من كل ما يُعرض في القاعات الكبرى، بل أثمن من كنوز الملوك. قال ذلك وهو يمسك صندوقًا خشبيًا صغيرًا، عتيقاً ومزخرفاً. قادها إلى غرفة جانبية داخل المتحف، غرفة لا تُمنح مفاتيحها لأي زائر، مكان مخصص للأسرار واللقاءات النادرة.

وهناك، تحت ضوء خافت بالكاد يضيء الأركان، ورائحة عتيقة تشبه عطر المخطوطات التي لم تمسسها يد منذ قرون، فتح الصندوق ورأتها: قلادة حجرية صغيرة، مصقولة برهافة فائقة، منقوش عليها رموز دقيقة تشبه خطوط السومريين القديمة، لكنها كانت أكثر غموضًا، وكأنها تنتمي لزمن لم يُسجّل بعد في أي لوح طيني أو بردية. كان "جان" ينظر إليها كما ينظر العابد إلى أثر من آثار الوحي، كأنما يحمل في يده مفتاحًا لبوابة الزمن نفسه، بوابة لم يجرؤ أحد على فتحها من قبل.

قال بصوت خفيض يكاد يكون همساً مسموعاً، كأنه يخشى أن يكسر سحر اللحظة، إنها وُجدت في خرائب معبد مجهول جنوب بابل، مدفوناً تحت طبقات من الرمال والنسيان. ثم روى لها حكاية غريبة ومثيرة عن زميله العراقي الأصل من البعثة الألمانية، جرّب ارتداءها ذات مرة، وأقسم بعدها أنه رأى الجنائن بكل مجدها وعاش فيها يومًا كاملاً، تفاصيله محفورة في ذاكرته كحقيقة لا تقبل الشك. ابتسمت الباحثة ابتسامة مشككة، محاولة إخفاء دهشتها، لكن ملامح "جان" كانت جادة بشكل لا يُحتمل، مما جعلها تتساءل عن حقيقة كلامه.

مدّت يدها، ببطء وتردد، ولمست القلادة، شعرت بوخز خفيف ورعشة داخلية سرت في أوصالها، كما لو أن شيئًا نائمًا في أعماقها قد استيقظ فجأة، يوقظ حواساً لم تكن تعرفها من قبل. تسارعت أنفاسها، وصار قلبها يخفق بجنون في صدرها، وهمست لنفسها، كأنها في حلم أو كابوس: "هل أنا على مشارف الجنون الذي يبتلع العقول؟ أم أنني أخيراً على بوابة الحقيقة التي طالما بحثت عنها؟" كانت القلادة تحترق بين أصابعها ببرودة غريبة، وشعرت أن قلبها يتردد بين الخوف من المجهول والترقب لما سيأتي.

ضغط "جان" برفق على الحجر الأوسط في القلادة، وكانت عيناه ترقبان رد فعلها باهتمام بالغ. قال بصوت فيه مزيج من الإثارة والترقب: "إن أردتِ أن تجربي، فالآن هو الوقت المناسب، لا يوجد تردد بعد الآن، لنذهب معًا" وفي تلك اللحظة الحاسمة، انطفأ الضوء في الغرفة فجأة، وغطى الظلام كل شيء، تاركاً ليلى في قبضة مصير مجهول.

فتحت عينيها ببطء شديد، وكأنها تخرج من سبات عميق، نزلت في عالم لم تعرفه قط. أمامها كانت جنة خضراء تتدرج على طبقات من الحجارة الضخمة، درج عملاق يرتفع نحو السماء. تتدلّى منها كروم العنب اليافعة والزهور النادرة، بألوان لم ترَها في أي كتاب أو حديقة. الماء كان يصعد عبر أنظمة دقيقة ومعقدة من الروافع والأنابيب، يصدر خريراً ساحراً. شمّت عبير الزعفران والياسمين، ورائحة الأرض المروية، وسمعت خرير السواقي كأنه لحن سماوي يعزف في ملكوت خاص. السماء كانت أرجوانية زاهية، تتناغم مع ألوان الزهور، والعصافير كانت ترفرف بألوان زاهية لم ترَ مثلها من قبل، أصواتها تغرد بألحان لا يمكن تكرارها.

لكن الجنائن كانت خالية تماماً. لا بشر، لا أصوات صاخبة، صمت عميق يخيم على كل شيء، كأنها تحتضر في صمتها الأبدي، أو تنتظر من يبعث فيها الروح من جديد. شعرت بوحدة تلامس قلبها بقوة، وبحزن غريب يتسلل من بين الأزهار المتفتحة، حزن لا تعرف مصدره، ولكنه يغمر روحها. ثم سمعت صوت خطوات خفيفة بالكاد تُسمع، تلتها همسة ناعمة مثل أنفاس الريح. التفتت ببطء، وقلبها يخفق بقوة، فرأت امرأة شابة، ترتدي عباءة ملكية فاخرة، ووجهها الجميل يشبه النقوش البابلية القديمة، وعيناها فيهما حكمة الآلهة وحزن المدن القديمة التي شهدت سقوط حضارات.

اقتربت المرأة بوقار، وسألتها عن هويتها وكيف أتت إلى هذا المكان السري. ارتبكت وأخذ قلبها يخفق بشدة لدرجة أنها كادت تسمع دقاته، لكنها شعرت أن ما يحدث ليس حلمًا عابراً، بل حقيقة تتجاوز كل تصور. نظرت إلى "جان" بجوارها، كان مذهولًا تماماً، لا يتكلم، كأن لسانه قد علق في القرن الذي أتى منه، غير قادر على استيعاب ما يراه. قالت المرأة، بعد أن عرّفت نفسها بأنها "شاليمة"، كاهنة الجنائن: كنا هنا نرعى الحياة، ونحمي الجمال، ونغني للزمن ليحفظ أيامنا.

تغير المشهد فجأة، وتحولت الجنائن الخضراء المورقة إلى صحراء قاحلة. جفت السواقي التي كانت تخر كأنها لحن سماوي، وتكسّرت قيعانها المشققة تحت أشعة الشمس الحارقة. تحولت الأشجار ذات الألوان الزاهية إلى حطب يابس، عصي وميتة، وكأن لعنة حلت بها فجأة. شعرَت الدكتورة بصدمة عميقة، وكأن الجنائن قد أصابتها الشيخوخة فجأة.

ثم جاء الغزاة.. قتلوا الملك، ودمروا الأنهار التي كانت تغذي هذه الجنائن، ودمّروا كل شيء. بقيتُ أنا وحدي هنا، أصلي للعودة، لكن لا أحد يعود، ولا شيء يعود كما كان. شعرت الباحثة بغصة عميقة في حلقها، بعد أن عرفت حقيقة الدمار الذي حل بهذه الحضارة العظيمة. قالت بصوتٍ تخنقه الدموع، وكأنها تتحدث عن خسارة شخصية: العالم بحاجة ماسة لرؤية هذا الجمال، ولفهم حضارتكم العظيمة، لا يمكن أن تبقوا في الصمت والنسيان.

ردّت الكاهنة بحكمة وهي ترفع يدها نحو كرمة ذابلة تكاد تتلاشى، كرمز لحضارتها التي تلاشت: أنتم لا تذكرون إلا الحروب التي تجتاح أوطانكم. الجنائن لم تُبنَ لتُحفظ في كتب التاريخ، بل لتُعاش وتُزهر وتُغنى. كان كلامها يحمل إدانة خفية للعالم الخارجي الذي يركز على الصراعات بدلاً من الجمال. ثم مدت يدها وعرضت عليها البقاء إلى الأبد في الجنائن، قائلةً بلهجة حزينة ومليئة بالأمل: "بابل تحتاج لمن يحبها بصدق يا من أتت من عالم آخر، تحتاج لمن يزرع فيها الحياة من جديد لتزهر وتعود كما كانت."

ترددت ليلى لحظات طويلة، صراعٌ داخلي عنيف يدور في أعماقها. عقلها يصرخ بالعودة إلى واقعها، إلى مسيرتها الأكاديمية وسمعتها كباحثة، لكن قلبها هدأ كما لم يهدأ من قبل، وجد سكينة لم يعرفها في حياته كلها. عاشت أيامًا لا تعرف عددها، ولا كيف مرت، أيامًا تحولت فيها إلى جزء من الجنائن. تعلمت كيف تُروى الأشجار بعناية، وكيف تُكتب الكلمات على الألواح الطينية، وكيف يُعزف الناي عند الغروب ألحاناً تشبه أنفاس الوجود.

كان كل شيء متناغمًا ومتصلاً، كأنها انتقلت إلى بعدٍ آخر، بعدٍ يُحسّ ويُعاش بكل تفاصيله الروحية، ولا يُشرح بالكلمات المحدودة. كانت تسير في الممرات الحجرية وتتأمل الأزهار وتهمس لنفسها في كل صباح ومساء: هل سأعود إلى عالمي القديم؟ وهل أريد حقاً أن أعود بعد كل هذا؟ أي علم أملكه في جامعاتي يفوق هذا الفهم العميق للحياة؟ أي شهادة أكاديمية تعادل هذا اليقين الذي وجدته هنا؟ أما جان فقد قرر العودة إلى عالمه.

قال لها وهو يودّعها بحسرة، وبعينين تلمعان بالإعجاب: أنا مجرد ناقل معرفة، أنقل ما وجدته في الكتب والمخطوطات. بينما أنتِ.. أنتِ من تصنعين المعرفة هنا، من تعيشينها. وأعطاها القلادة، كرمز لتسليم الإرث. لقد فهم أن رحلتها لم تكن بحثًا عن الأثر بقدر ما كانت بحثًا عن الوجود، وأنها وجدت معنىً يتجاوز المنطق الأكاديمي.

بعد سنوات طوال، ظهرت في متحف اللوفر وثيقة طينية جديدة ومثيرة، اكتشفها فريق بحث آخر. كانت منقوش عليها اسم "ليلى بنت الرافدين"، وهي وثيقة لم يسبق لها مثيل. تتحدث عن الجنائن، وعن كاهنة، وعن علمٍ راقٍ ومتقدم في الري، والزراعة، والموسيقى التي كانت تُعزف لإحياء الروح. لم تُعرف هوية الكاتبة أبدًا في الأوساط الأكاديمية، وظلت لغزًا يحيّر العلماء.

لكن في بابل، بين أطلال الجنائن القديمة حيث كانت تُراباً وحطباً، بدأت الحياة تدب من جديد. نبتت شجرة لم تُرَ هناك منذ آلاف السنين، شجرة مورقة ونضرة، تقف شامخة، شاهد على عودة الروح. أعاد خرير السواقي لحن الحياة، وعادت الزهور تلون الأرض، وكأن الجنائن استعادت سحرها وعظمتها بفضل الحب الصادق والرعاية التي وجدتها. حمل جذع الشجرة نقشًا صغيرًا بالمسمارية، غير واضح للعيون العابرة، يقول: "من يزرع الجمال.. لا يموت"

لقد أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الأسطورة التي كانت تطاردها، ووجدت يقينها وحقيقتها في مكان لا تعرفه الخرائط أو الكتب، مكانٌ كان ينتظرها لتبعث فيه الحياة، وتُعيد إليه المجد الضائع.

 


مشاهدات 95
الكاتب  فراس عبد الحسين
أضيف 2025/11/08 - 1:34 AM
آخر تحديث 2025/11/08 - 7:16 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 192 الشهر 5224 الكلي 12366727
الوقت الآن
السبت 2025/11/8 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير