أغنية واحدة تكفي لولادة ألف قائد
منتصر صباح الحسناوي
كلُّ مَن يطوفُ في مواقع التواصل سيلاحظُ تلك الظاهرة التي تتمدّد مثل موجٍ لا قرار له، أغانٍ تمجيديّة تتكرّر بصوتٍ واحدٍ تقريباً، إيقاعاتها متشابهة وكلماتها تُعيد تدوير المفردات ذاتها في مديح أشخاصٍ لا يملكون من الواقع إلّا سلطة الكيبورد أو بعضاً من الأضواء التي يشترونها بأموالهم، فيُنصبّون أنفسَهم قادةً على جمهورٍ يبحث عن صوتٍ يملأ فراغ المعنى.
أغانٍ جاهزة تُغنّى على لحنٍ مألوف، تُرفق بصورٍ ولقطاتٍ مُعدّة بعناية، فتنتشر كالنار في هشيم المنصّات، يتناقلها المتابعون إعجاباً أو انفعالاً أو حتى سخرية، لكنّ النتيجة واحدة: تضخيمُ الصورة وتحويلها إلى رمزٍ رقميٍّ جديد.أغنيةٌ واحدة قد تكفي لولادة ألف “قائدٍ افتراضي”، فالمسافة بين اللحن واللقب صارت أقصر من المسافة بين الفعل والإنجاز.وما إن تبدأ المقاطع بالانتشار حتى يتكوّن حول الشخص جمهورٌ عاطفيٌّ يردّد ما يسمع دون أن يسأل عمّا يفعل، لأنّ الإيقاع أسرع من التفكير، والشعور بالانتماء أقوى من الحاجة إلى الدليل.
في الأغاني التي تصنع هذه الصورة تتكرّر ألقابٌ ضخمة، تُمنح كما تُوزَّع الأوسمة في احتفالٍ صاخب: القائد الرمز، الشيخ الاوحد ، صانع المجد، أسد العرب، صقر الوطن، كبير القوم، سيّد القرار، الركن الشديد، الأوّل وما بعده فراغ…كلُّ لقبٍ منها يُخاطب حاجةً دفينةً لدى الناس، قد تكون حاجةً إلى الأمان، أو إلى بطلٍ يقف في الواجهة ليقول ما يعجزون عن قوله.
الخوارزميات تشتغل كآلةِ تضخيمٍ غير مرئيّة، تمنح الأولويّة لما يُثير الانفعال بعيداً عن المعنى والواقع ومن يستثمر في هذا الفضاء يعرف أنّ الشهرة تُشترى وأنّ الإعجابات تُستدرج وأنّ الجمهور الرقمي يمكن بناؤه مثل أيّ مشروعٍ تجاريٍّ ناجح، ولهذا صار كثيرٌ من “القادة” الافتراضيين يديرون صورتهم كما تُدار العلامة التجارية: تصميمٌ متكرّر، لونٌ محدّد، شعارٌ، وأغنيةٌ تُجدّد الولاء كلّما خبا الوهج.
المديح هنا فقدَ شرطه الأخلاقي، ففي التراث الشعبي كان المهوال يغنّي لمن فعل، لمن وقف في وجه الخطر أو خدم الناس بصدقٍ معروف.الكلمة كانت تُقال في مكانٍ معلوم، وحدثٍ معلوم، وجماعةٍ تشهد، أمّا اليوم، فقد صار المديح مُنتجاً رقمياً متاحاً كأيّ محتوى يُعاد نشره حتى تتكوّن حوله هالةٌ زائفة، كأنّ التكرار دليلُ صدق، وكأنّ الصوت العالي يملك الحقَّ وحده.
تُغري هذه الظاهرة الناس بتبديل معيار القيادة، فكثرت الشيوخ والزعامات والخبراء والقادة، وأصبحت الألقاب تنثر مثل «الواهلية»، فيغدو المظهر بديلاً عن الجوهر.
ولا شكّ أنّ العقل الجمعي ينغمس في ذلك الحماس، ويظنّ بعضهم أنّ الدفاع عن القائد الافتراضي جزءٌ من واجبٍ وطنيٍّ أو عشائريٍّ أو أخلاقي، بينما يتوارى أولئك الذين يعملون بصمتٍ في الظلّ احتراماً لأنفسهم عن مهازل المقارنة.
إنّ هذه النزعة تُهدّد وعي الأفراد وتمسّ صميم البناء الاجتماعي، فهي تحوّل القيادة إلى لعبةِ أصواتٍ وصور، تفقد القيم معناها، ويتقدّم مَن يملك أدوات التسويق على مَن يملك أدوات العمل.ومن الخطأ الظنّ أنّ الأمر مجرّد “موضةٍ أو ظاهرةٍ رقمية”، لأنّها ببطءٍ تُعيد تشكيل مفهوم القدوة في عقول الأجيال.
القائد الواقعي لا يحتاج إلى أغنيةٍ تذكّره بمن هو، لأنّه يترك أثره في حياة الناس لا في شاشاتهم.يبني، ويخدم، ويتّخذ القرار حين يصمت الجميع.
في هذا العالم الذي يُنتج القادة كما يُنتج الإعلانات، لا يعيش الزعماء طويلاً، فما إن تخفت الأضواء حتى يذوب المجد الرقمي مثل أغنيةٍ نُسيت كلماتها.
وحده الأثر الواقعي يبقى، كما يبقى الحجر بعد انطفاء الصدى.