سقوط الديمقراطية
ماهر نصرت
الديمقراطية التي حلمت بها الشعوب الحرة يوماً وخاصة تلك التي افرزتها الثورة الفرنسية الكبرى، كانت تعني حكم الشعب لنفسه واختيار الأصلح لقيادته، لكنها تحولت في مجتمعنا الى مجرد عملية شكلية تمارس كل بضع سنوات دون وعي او مسؤولية فأصبحت صناديق الاقتراع وسيلة لتمديد عمر الفاسدين لا لطردهم وصارت اصوات الناس تباع وتشترى كأي سلعة في سوق المصالح والمنافع... فحين يأتي موعد الانتخابات تهتف العشائر بالأهازيج للمرشحين من أقاربها وكأنه زفة عرس لا اختيار مصير أمة، وتتحرك الجيوب وتغيب العقول فيتقدم من يملك المال او النفوذ ليحصد الاصوات بينما يتراجع صاحب الفكر والنزاهة والضمير لأن المعيار لم يعد الكفاءة بل القدرة على اشباع البطون وملء الجيوب.
وهكذا تفشل العملية الديمقراطية دورة بعد اخرى لأنها تقوم على طبائع شعوب لم تدرك بعد ان الديمقراطية ليست طعاماً ولا مالاً ولا وعوداً مؤقتة بل عقداً أخلاقياً واجتماعياً بين الحاكم والمحكوم، وحين ينتخب الناس من يسرقهم او يبيع ارضهم اوينابيع نفطهم فإنهم يشاركونه في الجريمة دون ان يشعروا فهم يُسلّمون مصيرهم بيد من اعتاد خيانتهم ثم يشكون منه ويلعنوه بعد فوات الأوان. والاغرب من ذلك انك حين تجلس مع هؤلاء في المقاهي او الشوارع تسمعهم يشتمون بعض السياسيين ويتهمونهم بالفساد وكأنهم لم يكونوا من اختارهم بأصواتهم وكأنهم أبرياء من كل ما يجري من خرابٍ وفسادٍ في بلادهم يلعنون السياسيين في العلن ويمجدونهم في السر ويتفاخرون بأن ابن عشيرتهم صار نائباً او وزيراً حتى وان كان لصاً او منافقاً او قاتلاً أو ولائياً للغير.
لقد شوهت هذه السلوكيات معنى الديمقراطية وغيرت طبيعتها فصارت شكلاً بلا مضمون وصار الانتخاب فيها فعلاً قبلياً شخصياً لا وطنياً ولا علاقة له بالفكر والعقل والاختيار السليم وصارت الديمقراطية الجديدة ديمقراطية الولاءات لا القناعات، ديمقراطية الجيوب لا العقول، ديمقراطية الخداع لا الوعي.
وحين تفقد الديمقراطية روحها الأخلاقية تتحول الى أداة تدمير ذاتي تفرز حكومات فاسدة تعيش على جهل شعوبها وولاءاتهم الضيقة وتغذي الانقسام والفساد حتى يصبح التغيير مستحيلاً لأن الناخب نفسه صار جزءاً من المشكلة لا جزءاً من الحل فبدلاً من ان تكون الانتخابات طريقاً للإصلاح أصبحت دورة متكررة للخراب يعيد فيها الناس انتاج فشلهم بأيديهم مرة بعد مرة.
وهكذا تموت الديمقراطية ببطء في اوطان لم تعرف بعد معنى الحرية الحقيقية لأنها لم تتعلم كيف تميز بين من يخدم الوطن ومن يخدم نفسه ولم تدرك ان الشعوب التي تبيع صوتها تبيع مستقبلها وان الاوطان لا تبنى بالمال والقبيلة بل بالوعي والمسؤولية والضمير الحي وهكذا فلنقرأ على بلدنا السلام.