حين تتحول الديمقراطية إلى إرث عائلي
العلاء صلاح عادل
منذ أكثر من عقدين على التحول الديمقراطي في العراق، كان الأمل أن تكون صناديق الاقتراع وسيلة لتجديد النخب السياسية وفتح المجال أمام الكفاءات الجديدة للمشاركة في إدارة الشأن العام. غير أن المتابع للمشهد الانتخابي العراقي يلاحظ بوضوح ظاهرة آخذة في الاتساع يمكن وصفها بـ"توريث الترشيح"، أي انتقال فرص الترشح للمناصب النيابية والمحلية داخل الأسرة أو العائلة السياسية الواحدة، وكأن المقعد النيابي بات جزءًا من الميراث العائلي لا استحقاقًا انتخابيًا يقرره الناخب بحرية.
في محافظات عراقية عدة، أصبح مألوفًا أن يترشح ابن النائب أو شقيقه أو أحد أقربائه للمقعد ذاته بعد انتهاء دورة انتخابية، وغالبًا ما يُقدَّم هذا الفعل على أنه "استمرار لمسيرة الخدمة العامة" أو "حفاظ على تجربة العائلة السياسية". لكن الواقع يكشف أن هذه الممارسات تُكرّس حالة من الانغلاق السياسي وتمنح العائلات المتنفذة حضورًا متوارثًا داخل المؤسسات المنتخبة، مما يفرغ العملية الديمقراطية من مضمونها التنافسي.
تاريخيًا، لعبت البُنى العشائرية والعائلية دورًا مؤثرًا في الحياة العامة العراقية. فالمكانة الاجتماعية والزعامة القبلية والعلاقات الاقتصادية جميعها تتداخل في رسم ملامح النفوذ السياسي. ومع ضعف الأحزاب البرامجية وتراجع الثقة بالعمل الحزبي، برزت الهوية العائلية والعشائرية كبديل جاهز يمنح المرشح قاعدة دعم ثابتة، بغض النظر عن كفاءته أو برنامجه الانتخابي. وهكذا تحوّل التصويت في كثير من الأحيان إلى فعل اجتماعي يقوم على الولاء العائلي لا على قناعة سياسية واعية.
من منظور العلوم السياسية، يمكن تصنيف هذه الظاهرة ضمن ما يُعرف بـ"الأوليغارشية العائلية" أو "الزبائنية السياسية"، حيث تُختزل المنافسة في دائرة ضيقة من الأسماء التي تمتلك المال السياسي أو النفوذ الاجتماعي. وقد أظهرت دراسات عراقية محدودة أن استمرار هذا النمط يسهم في جمود الحياة السياسية وضعف تجديد النخب، مما ينعكس سلبًا على أداء البرلمان والمجالس المحلية ويؤدي إلى تراجع الثقة الشعبية بالمؤسسات المنتخبة.
توريث الترشيح يفرغ الديمقراطية من محتواها الحقيقي، إذ يتحول التصويت إلى طقس عشائري لا يفرز برامج أو رؤى جديدة. فالناخب يصوت "لأبناء فلان" لا لمرشح يحمل مشروعًا إصلاحيًا. وهنا تكمن خطورة الظاهرة، لأنها تُبقي العملية السياسية دائرة في فلك الأسماء ذاتها جيلاً بعد جيل، وتمنع ظهور جيل سياسي جديد يمكن أن يقدم مقاربات مختلفة في الحكم والإدارة.
إن هذه الظاهرة تستحق دراسة علمية معمقة من قبل أساتذة العلوم السياسية في الجامعات العراقية، لتأصيلها ضمن أدبيات التحول الديمقراطي وسوسيولوجيا السلطة، وفهم جذورها وامتداداتها. فالسؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هو: هل يعكس توريث الترشيح مرحلة انتقالية طبيعية في نظام لم تكتمل فيه مؤسسات الأحزاب بعد، أم أنه انحراف تدريجي عن المسار الديمقراطي نحو "ديمقراطية عائلية" تدار فيها المناصب كما تُدار الممتلكات الخاصة؟
يبقى العراق اليوم أمام اختبار حقيقي: هل ستظل الانتخابات تكرّس النفوذ العائلي وتعيد إنتاج الوجوه ذاتها، أم ستصبح فرصة حقيقية للتغيير وإفساح المجال أمام الكفاءات المستقلة؟ الجواب لن يأتي من القوانين وحدها، بل من وعي الناخب وإرادته في أن يجعل من صوته أداة للتجديد لا أداة للتوريث. فالديمقراطية التي لا تُنتج بدائل جديدة، تتحول مع الوقت إلى شكل بلا روح، وإلى إرث يتوارثه الأبناء كما يتوارثون الاسم والجاه.