الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
إنه حقًا ملاكي

بواسطة azzaman

إنه حقًا ملاكي

انتصار الحسين 

 

خرجت ميري في جو تراه كئيبًا، حيث السماء مليئة بغيوم رمادية، والبرد قارس، والهواء يلسع وجنتيها كأنه لدغات نحل، وأنفها أصبح أحمر كالجمر، وشفتيها الزرقاء تتمتم بكلمات غير مسموعة. أخذت تلف يديها حول نفسها تارةً، وتفركهما ببعضها تارةً أخرى لتشعر ببعض الدفء.

كانت ثيابها غير كافية لتحميها من الجو القارس، إذ إن الأبواب المقفلة من حولها تُفتح ليخرج منها الآباء والأمهات والأطفال المتجهون إلى أعمالهم ومدارسهم، ويُغلق الباب بإحكام. من يبقى في البيت يخرج بسرعة، دون نظرات وداع، فلا أحد يخرج طوعًا، الكل مجبرون، ولا يريد أحد الخروج في مثل هذا الطقس.كانت ميري تنظر إلى كل هذا ولا تزال تتمتم بكلماتها، حتى جاء الباص المتجه إلى مدرستها. جلست داخله، وشعرت ببعض الدفء، وجلست بجانبها فتاة أخرى تبدو أكثر راحة رغم أنها ترتدي ملابس مماثلة، لم تكن أثقل أو أكثر دفئًا من ملابس ميري.بدا ترمقها بنظرات إعجاب، حيث كانت عينا الفتاة تلمعان ببريق السعادة، ورُسمت تحت وجنتيها خطوط الضحك، وكان أنفها ورديًا، وكذلك شفتيها، ووجنتاها تشعان ببهاء الجمال. لم يكن جمالها في الشكل المميز، بل في السعادة التي ملأت وجهها، فجعلت من ينظر إليه يظنّ أنه لا يرى ذلك الجو الكئيب المحيط.همّت الفتاة بفتح زجاج نافذة الباص، فقامت ميري بدفعها بيدها بقوة وأعادت إغلاقها دون أي كلمة. نظرت إليها الفتاة بدهشة وقالت:

"الجو جميل، دعينا ننظر من خلال النافذة."نزل كلامها كالصاعقة على مسامع ميري، التي ردت بتعجب:

"جميل؟!"قالت الفتاة:

"نعم، إنه يوم جميل. ألم تنظري إلى السماء التي غطتها الغيوم الرمادية؟

وتلك الرياح التي تعطي صوتًا دويًا جميلاً كأنه صدى تنين يختبئ في مكان ما لا نراه، خرج من قصص الخيال!

وهذا الهواء البارد الرقيق يلسع وجوهنا كقرصات والدي لأنفي حين يداعبني ليؤلمني قليلاً، فأبدأ بتلويح يدي نحوه غاضبة، فيشدني نحوه ويحضنني بحنان، ويعلو صوته بالضحك مستهزئًا بضعفي، وأنا أحاول حماية أنفي منه. إنه جو جميل، أليس كذلك؟"صمتت ميري قليلاً، وفي داخلها تساءلت: كيف ترى هذه الفتاة كل ما حولها بنظرة إيجابية مختلفة؟

غيرت وصف كل شيء. هل هذا الجو جميل حقًا وأنا نظرتي سوداوية، أم أنها لا تشعر؟ ثم قالت للفتاة:

"ميري هو اسمي، ولكن... هل حقًا تشعرين أن الجو جميل؟"قالت الفتاة مُجيبة:

"أجل، إنه جميل. فالخارج إلى الشارع يخرج وهو يحتضن نفسه بحب ليدفئها، ومن يبقى في البيوت يعود مسرعًا ليجلس قرب المدفأة، حيث الأجواء المفعمة بالامتنان لتلك المدفأة التي يجتمع حولها الأهل، وهم يشربون الشاي الساخن ويتبادلون الحديث، أو يقرأ أحدهم كتابًا، فيذهب برحلة مع ذلك الكتاب. تلك الأجواء التي تتطلب وجود الدفء تعطي جمالًا لتلك الرحلة، حيث لا تشعر بالحر ولا يخنقك العالم من حولك."هنا أدركت ميري أن هذه الفتاة تعيش في عائلة مثالية إيجابية متحابة، ليس فيها نزاع ولا تصادم. تعيش الحياة بتفاصيلها بين الفصول بحب، حيث الشعور بالانتماء إلى الأماكن والأشياء والتفاصيل الصغيرة في البيت التي تتغير بين الفصول،

بين التفاف العائلة حول المدفأة في الشتاء، وفتح النوافذ في الصيف، وتخفيف الفراش، وضب ملابس الشتاء، وتبديل الأشياء، ومراسيم العائلة المتجددة بين الفصول، كلها تنبئ بأن تلك العائلة متحابة متألفة، تحب عيش كل تفاصيلها، وتحتفظ بكل لحظة على أنها جميلة، تظل معها للفصل القادم.قالت الفتاة متسائلة:

"ألا تشعرين بذلك؟ لماذا شردتِ بتفكيرك بعيدًا وكأنك سمعتِ شيئًا غريبًا عن الواقع؟"أجابتها ميري:

"هل لك أم وأب؟"قالت الفتاة:

"نعم."قالت ميري:

"أنا أعيش مع زوجة أب، أنهض وحدي مسرعة، أجمع الملابس غير المرتبة في خزانتي، وأبحث عن جورابي الذي لا أجد له زوجًا بسهولة، ثم أبدل ثيابي بسرعة، حيث لم يوقظني أحد. أبي لم يدخل غرفتي منذ أن توفيت أمي وتزوج.

يلازمني فقط وقت الطعام أو حين يناديني ليعطيني مصروفي. خرجت ولم يتبعني أحد ليصلني إلى الباب. نادت خلفي زوجة أبي: لا تنسي أحكام إغلاق الباب يا غبية!

حين خرجت شعرت بالغربة أكثر، لأني أرى التفاصيل حولي عكسك تمامًا."أطرت الفتاة رأسها وقد دمعت عيناها، وقالت:

"أبي هو ملاكي، رغم حنان أمي. هو من يوصلني إلى الباب، وحين أعود أركض مسرعة نحوه ليقبلني ويحضنني.

هو من علمني كيف أستمتع بتفاصيل الأجواء الصغيرة، لأنه لطالما دخل غرفتي وهو يحمل قصة يقرأها لي قبل النوم.

أبي يقول: أريدك قوية كي لا يكسرك أحد من بعدي، حتى أنه لا يؤنبني أمام أحد حين أخطئ.

يأخذني معه إلى مكان ما أو إلى غرفتي، ويتحدث معي ويناقشني ليجعلني أدرك خطأي بنفسي من خلال النقاش، ولا يفرض عليّ أنه خطأ."قالت ميري:

"ليت والدي يكون هكذا، فربما يعوضني عن فقد أمي، ويجعلني أرى الحياة أجمل، وأستمتع بتفاصيلها التي هي من عجائب خلق الله والتأمل فيها.

يشعرنا بإبداع ذلك الخالق، الذي يرسل لنا رسالة أن نغير في أنفسنا ونبدل أحاسيسنا مع اختلاف الطقوس. نحب التغيير ونتأقلم معه، نعيش التفاصيل لأنها جميلة وتستحق التأمل، ونترك الإصرار على النظر إلى الجوانب المظلمة التي تخلق من نظرتنا السوداوية أثرًا نفسيًا يثقل النفس ويمنعنا من الاستمتاع بجمال الحياة وطبيعتها.


مشاهدات 51
الكاتب انتصار الحسين 
أضيف 2025/11/08 - 1:19 PM
آخر تحديث 2025/11/09 - 1:12 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 42 الشهر 5781 الكلي 12367284
الوقت الآن
الأحد 2025/11/9 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير