داده... إنه أخيّك انه أخوك
أحمد جاسم الزبيدي
في مدينتي، حيث الصداقة تبدأ بالضربة وتنتهي بالضحكة، لم نكن نحن الصبية وحدنا أصحاب الشقاوة والمقالب. كنا جيلاً كاملاً من الفوضى المنظمة: من فينا «أبو نكتة»، ومنّا من يتقمّص دور القائد المغوار، فارس الأمة، الذي يخشاه الجميع... حتى يواجه أول «حديدة حارة» فيتحول إلى أرنب يرتجف من ظله.
وكان من بين هؤلاء أحد أبناء جيراننا، مغرور إلى درجة أنه يعتقد أن الرجولة تُقاس بارتفاع الصوت وعدد المشاجرات في الحارة. أبوه كان «متمكنًا»، أي جيبه عامر ويده طليقة، فظنّ الابن أن المروءة تُورّث مع العقارات !
وذات صيف، دعينا جميعًا إلى عرس في قرية «بِتّه وهبي» ـ قرية أمي وأخوالي. وكالعادة، نحن الصبية نترك العرس ونركض وراء مغامراتنا. هناك، خطرت ببالي فكرة «بطولية» لاختبار شجاعة الفارس الهمام. كانت هناك مجموعة من الكلاب تجول قرب الساقية، فقلت له مازحًا: «اركض ومن يسبق انت ام الكلاب «!
وركض المسكين بكل حماسه وما إن سمع نباح الكلاب وهي تتبعه ، حتى تحولت رجولته إلى دخان، وصوته إلى استغاثة تهز النخل:
ــ «يا معوّدين! يا أهل المروّة! داده... إنه أخيك»!
لكن الفسيل لم يرحمه؛ سقط بينه ممزق الدشداشة، وجهه مخلوط بالطين وبعض الدم، والكلاب واقفة تنظر إليه وكأنها تقول بسخرية:
«وين الشجاعة يا همام؟ «
وهو يتوسل بالكلاب ويتوجه لاكبرهم:
- «داده أخيّك .. آنه اخوك أبو المروه «.....
ومنذ تلك الليلة بدأنا نتهامس نحن الصبية في الحارة وبخبث ها « داده اخيّك «، حينها اختفى صوت الفارس في الحارة. لا عنتريات، لا صراخ، لا «أنا ما أخاف من أحد». صار يمرّ بيننا كالموظف الذي تأخر عن الدوام ويبحث عن باب خلفي ليدخل دون أن يراه المدير.
وما أشبه اليوم بالأمس... فكم من «فرسان» نراهم في الفضائيات، يزمجرون ويهددون ويتوعدون، وحين تصفر أول رصاصة أو تلوّح دولة كبرى بإصبعها، يلوذون بالصمت، ويبدؤون الهمس:
ــ «داده... إنه أخيّك» .