الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الثقافة التوثيقية في مواجهة تحديات الرقمنة


الثقافة التوثيقية في مواجهة تحديات الرقمنة

حسين الزيادي

 

اكتسب التوثيق في العصر الحالي مكانة محورية، حيث يُعد ركيزة أساسية لضمان الثقة والمصداقية وتعزيز استقرار النظام الاجتماعي والقانوني. علاوة على ذلك، يُسهم التوثيق في تعزيز السلم الاجتماعي، من خلال توفير آلية قانونية لحل النزاعات، ، والتوثيق في عصر الرقمنة هو تحول استراتيجي نحو المستقبل، إذ يشهد العالم تحولًا رقميًا سريعًا، ولم يعد التوثيق مقتصرًا على الوثائق الورقية التقليدية، بل امتد ليشمل التوقيعات الرقمية، العقود الذكية، ، مما يعكس تحولًا جذريًا في كيفية توثيق المعلومات والمعاملات.

دور التوثيق في تعزيز التعايش السلمي

للتوثيق هدف بَناء هو ارساء مبادئ السلام واسس التعايش السلمي من خلال كشف الحقائق وحفظها والحيلولة دون طمسها وتحريفها واعادة صياغتها وفقاً للأقلام المأجورة ، ليكون هناك سجل تاريخي وقانوني للامة، ولا يهدف التوثيق الى اثارة النزاعات العاطفية، لأنه يعتمد على مصادر ووثائق واعترافات وأدلة حقيقية ملموسة، ولا يعتمد على روايات انتقائية او تهويل اعلامي لجوانب دون اخرى، وتأسيساً على ما تقدم فان التوثيق هو عملية مستمرة وهادئة تهدف لتعزيز المصالحة، لا لتعميق الانقسامات او احياء الصراعات، وهي ليست عملية انتقائية مرحلية تحدث في ازمان معينة بهدف تحقيق أهداف وغايات سياسية ومصالح اقتصادية واجتماعية واعلامية، والتوثيق يختلف تماماً عن ما يصطلح عليه البعض بنبش الماضي لأنه يهدف الى بناء سجل منيع ضد التزييف المعلوماتي، كما انه يهدف الى تحقيق الوئام والانسجام، وليس غرس الكراهية، ولا يتحدث عن حقوق شريحة سكانية معينة دون اخرى.

 

العملية التوثيقية الناجحة

ان العملية التوثيقية الناجحة تهدف الى تحقيق الموضوعية في توثيق الاحداث وتعرية الأكاذيب التي حاول البعض ارساء معالمها وتسويقها، وجند لها منظومة ضخمة من الاقلام المأجورة استطاعت ان تجتاح عقول الكثيرين بأفكارها المزيفة وآراءها المنحرفة، واغلب شعوب المعمورة التي تمتلك فكراً حياً تؤرخ لماضيها وتوثق لأحداثها،   وبناءً على ما تقدم يمكن القول ان التوثيق لم يكن في يوماً من الأيام ترفاً اكاديمياً، أو بحبوحة فكرية، فهو ضرورة تحتمها الأخلاق والمهنية، وهو ضمانة للمستقبل، حيث اثبتت الدراسات أن المجتمعات التي توثّق مالحقها من جرائم (مثل جنوب أفريقيا بعد الفصل العنصري) أقل عودة للعنف، فالمجتمعات التي توثق ماضيها تُرسي قواعد المصالحة الحقيقية، وللأسف الشديد هناك يتخذ من حجة التركيز على الحاضر ذريعة لنسيان الماضي بكل احداثه، ويطالب بأسدال الستار على التاريخ الإجرامي للأنظمة الشمولية في العراق، وهي نظرة قاصرة تحمل من السذاجة وعدم الوعي الشيء الكثير، لان القاعدة العقلية تقول : ان ما ينسى يمكن ان يتكرر، لاسيما واننا نعيش في عصر معبأ بكل ما من شأنه ان يسهم في غسل العقول وتوجيهها.

ثقافة التوثيق

علينا ان نجعل من التوثيق ثقافة وممارسة موضوعية واعية تحفظ الحقوق وتعزز الاستمرارية مع مسايرة الأساليب الرقمية الحديثة في الجانب التوثيقي، كما باتت الحاجة ماسة في ظل القرصنة الالكترونية الى اعتماد معايير صارمة لأمن المعلومات وسرية البيانات والوثائق، وبهذا من الضروري ان يكون التوثيق جزءاً من مشروع وطني وانساني يسهم في تلافي اخطاء الماضي وتضميد جروحه، وبناء مستقبل آمن مزدهر يقوم على اساس التعايش السلمي والحوار المجتمعي، بشرط ان لايكون التوثيق مجرد نبش للماضي او محاولة لتفكيك الاواصر المجتمعية، فالتوثيق في المنظور الحديث عملية موضوعية تبنى على التحليل الموضوعي والمصداقية في التعاطي مع الاحداث.

التوثيق من الناحية القانونية

لقد أحسن المشرع في جعل الكتابة القاعدة الأساسية في الإثبات، إلا ما استثناه لأسباب معقولة أو لتعذر الحصول على الكتابة، ذلك أن شهادة الشهود قد تعتريها عيوب مثل المحاباة، الانتقام، الرشوة، الكذب، المبالغة، الخطأ، النسيان، أو عدم دقة الملاحظة. وقد أظهرت الدراسات النفسية أن أقوال الشهود قد تختلف حول حادثة واحدة عقب حدوثها، فما بالك إذا مضى على الحادثة وقت طويل، كما هو الحال في الدعاوى القضائية، ويلاحظ القضاة ذلك كثيرًا، مما يُبرز أهمية الكتابة كوسيلة أكثر موثوقية في إثبات التصرفات القانونية، وعلى الرغم من أن القرائن تُعد أضعف من شهادة الشهود، فإنها تُعتبر أدلة غير مباشرة يستنتج منها الحق استنتاجًا، ومع ذلك، قد تكون استنتاجات الإنسان عرضة للخطأ، مما يُؤكد على ضرورة الاعتماد على الكتابة كوسيلة رئيسية في إثبات التصرفات القانونية، لضمان حقوق الأفراد والحفاظ على استقرار النظام القانوني.

التوثيق في الشريعة الاسلامية

أولت الشريعة الإسلامية اهتمامًا بالغًا بتوثيق المعاملات المالية بين الأفراد، وذلك لضمان حقوق الأطراف المتعاقدة وتفادي النزاعات المحتملة، وقد ورد في القرآن الكريم، المصدر الأساسي للتشريع الإسلامي، تأكيد على ضرورة كتابة الديون المؤجلة إلى أجل مسمى، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ...﴾ (البقرة: 282(، وقد تناول الفقهاء هذه الآية بتفسير وتحليل مختلف، وذهب بعض المفسرين إلى أن الأمر بالكتابة في الآية يُفهم على أنه واجب، استنادًا إلى صيغة الأمر التي تفيد الوجوب، بالإضافة إلى ما ورد في الآية من تأكيدات مثل: (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ( و (وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ(، وقد وثق القران الكريم العديد من الاحداث على الرغم من كونه ليس كتابا توثيقاً.

التوثيق الرقمي

إن التوثيق الورقي ضرورة لا غنى عنها لاستمرارية التراث الإنساني وحفظ الذاكرة الاجتماعية، لما يمتاز به من ملموسية مادية تُضفي عليه صلابة ومصداقية، وهو بذلك الركيزة الأساسية لحفظ التراث بمختلف مفرداته. فالتوثيق الورقي يتأثر أقل بالمخاطر التقنية مثل الفيروسات أو الهجمات السيبرانية التي قد تمحو البيانات الرقمية في ثوانٍ. كما أنّ الوسائط الرقمية تخضع لتغيُّر سريع يجعل الاستفادة منها أمراً صعباً أو مستحيلاً بعد مرور الزمن، وهو ما يُعرف بالتقادم التكنولوجي؛ فالأقراص المرنة مثلاً باتت من الماضي، ولا يمكن استخدامها إلّا بأجهزة وسيطة نادرة، هذا إن لم تتعرض للتلف بفعل الزمن. أما الوثائق الورقية، وخصوصاً أوراق البردي التي مرّت عليها مئات أو آلاف السنين، فهي لا تزال موجودة إلى اليوم وقابلة للقراءة. والتقادم التكنولوجي لا يقتصر على الأقراص المرنة فقط، بل بدأ يشمل أيضاً الأقراص الضوئية ، وقد يمتد لما بعدها من وسائط؛ فضلاً عن اعتماده على الكهرباء والطاقة وأجهزة تشغيل متخصصة. بينما يُمكن قراءة الكتاب الورقي حتى في أصعب الظروف، من دون الحاجة إلى مصدر للطاقة أو أي جهاز فني. حتى التخزين عبر الإنترنت، سواء على خوادم خاصة أو في ما يُعرف بالتخزين السحابي، لا يخلو من مخاطر فقدان المعلومات أو صعوبة الوصول إليها، أو حتى استحالة تشغيلها مستقبلاً. قد يحدث هذا عندما تصبح الأنظمة أو البرامج غير متوافقة مع التطور التكنولوجي السريع، أو حينما تتوقف الشركات المطورة عن تقديم الدعم الفني—وهي حالة تتكرر كثيرًا. وقد شهدنا جميعًا اختفاء آلاف الأخبار والوثائق والصور المخزَّنة على وسائط رقمية مختلفة، لأسباب عدة، منها انتهاء صلاحية اسم النطاق  لموقعٍ ما، أو لعدم دفع رسوم الاستضافة على خادم.


مشاهدات 84
الكاتب حسين الزيادي
أضيف 2025/10/18 - 12:47 AM
آخر تحديث 2025/10/18 - 3:09 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 119 الشهر 11649 الكلي 12151504
الوقت الآن
السبت 2025/10/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير