صرخة القدر
ثامر محمود مراد
لم أتوقع أن يُمتحن قلبي بعد هذا العمر الطويل. كنت أظن أن المرأة بعد الخمسين تستقر في منطقة آمنة من الذاكرة، منطقة لا يطرقها الماضي إلا كنسمة بعيدة. لكن القدر، هذا الماكر، يعرف أين نخفي جروحنا، ويأتي ليكشفها حين نكون في أضعف حالاتنا.
كان ابني نُوّار قد أصرّ أن نغادر الوطن. قال لي إن الحياة هناك لم تعد لنا، وإن الدخان صار أشدّ من الهواء. تبعته، ليس لأنني أخاف على نفسي، بل لأن قلب الأم لا يُكتب له الفراق، مهما تظاهر بالقوة.
صعدنا القطار ذلك الصباح. كنت متعبة، ومتعبة أكثر من التعب… كأن سنوات العمر تجلس على كتفيّ. جلستُ في المقصورة التي دلّونا إليها، ثم طلب نُوّار تغيير المقاعد. وافقت بلا نقاش. اعتدتُ أن أشاهد العالم من مقعدٍ لا أعرفه.
وعندما دخلنا المقصورة الجديدة، لفت انتباهي رجل يجلس قرب النافذة. رجل يحمل في ملامحه كسراً لا يراه إلا من عاش مثله. لم أعره اهتماماً، لكن شيئاً في داخلي قال: “هذا الصوت… لو تكلم… سأعرفه.”
جلستُ إلى جانبه.
أطلقتُ زفرةً ثقيلة، وبدأتُ أتحدث عن الوطن. لماذا قلت كل ذلك؟ لا أعرف. ربما لأنني امرأة تتعب من حمل الكلام داخلها. ربما لأنني كنت أريد أن يسمعني شخص لا يعرفني، كي لا يفسّر وجعي تفسيراً عائلياً.
كلما تكلمت، ارتجف الرجل قليلاً.
كلما ضحكت ضحكة صغيرة، تمايل كتفاه كمن يصدّ ريحاً قادمة من زمن بعيد.
أدركتُ أن هناك شيئاً… شيئاً اسمه: الاعتراف.
كنت أراقب ابني وهو يحاول إسكاتي، كأنه يخشى أن يحرجني. لم يكن يعرف أنني لا أخجل من الكلام… بل أخاف من الصمت.
ثم سأل الرجل ابني:
“هذه زوجتك؟ وهذا طفلك؟
وهذه السيدة… والدتك؟”
عندما قال نُوّار: “نعم، هذه أمي”، شعرتُ أن السؤال موجَّه إليّ أكثر مما هو موجَّه إلى ابني.
تابع الرجل حديثه عن فتاة تركته قديماً. فتاة خانت قلبه وذهبت لرجلٍ أغنى. فتاة وعدته ثم مضت. فتاة قال عنها إنها كانت تعتبره أجمل منها.
كلماته اخترقت صدري.
كان يتحدث عني… لكنه لا يعرف أنني هنا، على بعد سنتيمتر واحد من كتفه.
عندما نهض ووقف قرب الباب، شعرت أن الهواء يقلّ. ثم سأل نُوّار سؤالاً هو أشبه بسكينٍ تُرفع ببطء:
“أنت نُوّار، أليس كذلك؟
وأمك اسمها… فوزية؟”
في تلك اللحظة، رأيت ملامح الماضي كلها تُفتح أمامي كما تُفتح نافذة على عاصفة. رأيتُ وجهي قبل أربعين عاماً، وسمعتُ صوتي وأنا أقول له: “لن أتركك”… قبل أن أتركه.
ارتجف ابني، وارتجفتُ أنا أكثر منه.
خرج الرجل وهو يبكي.
لم أبكِ. كنتُ أكبر من البكاء… لكني كنتُ أصغر من احتمال الحقيقة.
جلستُ وحدي قليلاً، ثم قررت أن ألحق به.
ليس لأعتذر، فالاعتذار في مثل هذا العمر يصبح كلمة ناقصة، بل لأقول شيئاً آخر… شيئاً يشبه الخلاص.
وجدته في آخر القطار، يجلس كمن فقد جهة العالم. مددت له سيجارة، وطلبت منه أن يشعلها. عندما أشعلها لي بيدٍ مرتجفة، رأيت في العينين اللتين تلاقيان عدستي النار كان ذلك الشاب الذي عرفته يوماً.
فتحتُ حقيبتي وأخرجت ألبوماً صغيراً خبّأته سنوات.
لم أخبر أحداً أنني احتفظت به. حتى زوجي السابق لم يدرِ أن جزءاً مني عاش خارج الزواج، خارج العائلة… خارج الزمن.
وضعتُ الألبوم في حضنه وقلت:
“هذا… تاريخي معك.
أخفيته طويلاً، ليس خوفاً منك، بل خوفاً من نفسي.”
نظرت إليه طويلاً، ثم قلت:
“قلتَ إنني خنتُك… ربما.
لكنني كنتُ بنتاً صغيرة، صغيرة جداً على اتخاذ قرار يشبه الحب.
وكنتُ كبيرة جداً على العودة بعد أن اتخذت القرار.”
تابعتُ بصوتٍ هادئ:
“لم أنسَك يوماً… لكنني لم أملك الشجاعة لأقول ذلك لأحد.
اليوم فقط… قاله القدر بالنيابة عني.”
قمتُ من مكاني.
تركتُه بين الألبوم والسيجارة الذابلة.
وتركته بين الماضي والحاضر، بين اسمي ودمعته، بين “فوزية” التي رحلت و"فوزية" التي عادت صدفةً في قطار.
أما أنا…
فمضيت إلى المقصورة وقلبي يرتجف لأول مرة منذ أربعين عاماً.