من الرابح ؟ .. الإتفاقية التركية العراقية بشأن أزمة المياه
راجي العوادي
ان عقدة المياه التي أهملت الحكومات العراقية السابقة حلها مع تركيا باتفاقيات رابحة للعراق ، عادت اليوم للقبول بها باتفاقية عالية الكلفة على العراق , فبين عامي 2009 و 2010 تمكن العراق في التوصل لاتفاق مبدئي مع تركيا لحل مشكلة حصص العراق المائية مقابل بعض الترتيبات الاقتصادية المفيدة للطرفين حيث ملخص مسودة تلك الاتفاقية كانت تقضي بالتزام تركيا بزيادة تدفقات المياه بمعدلات كافية ومستمرة نحو العراق، مقابل عمل الشركات الزراعية التركية في مناطق وسط وجنوب العراق للمساهمة في استصلاح الأراضي الزراعية والاستفادة من تدفقات المياه في تطوير إدارة المياه وانظمة الري والانتاج الزراعي باستخدام الطرق الحديثة , فيكون العراق قد حقق فائدة لزيادة تدفقات المياه، لزيادة المساحات الزراعية وزيادة الانتاج , أما فائدة الأتراك فستكون دعم شركاتها في توسيع أعمالها مما يساهم في دعم الاقتصاد التركي بعوائد مالية تنتج من نشاط تلك الشركات, لذا ستكون هذه الاتفاقية الرابحة لكلا البلدين، وكان يمكن التوصل من خلالها لحل مستدام لمشكلة المياه وتخلص العراق من الأزمات المائية التي تأثر فيها خلال السنوات الماضية وحتى اليوم ، لكن ما حدث في حينها كان صادماً، فقد رفضت الحكومة العراقية (وبنظرة ضيقة) المضي قدماً بهذه الاتفاقية وأهمل ملف حل مشكلة المياه , لذا ضيعت على العراق فرصة ذهبية لحل عقدة المياه، لتضطر حكومة عراقية حالية ، وبعد مضي أكثر من 15 سنة للتوقيع على اتفاقية غير مضمونة وذات كلفة أعلى بكثير من اتفاقية 2010 تم فيها إدخال التجارة والنفط لاقناع الاتراك بزيادة تدفقات المياه.
أن الاتفاق الموقع في 2-11 – 2025 هو آلية لتنفيذ اتفاقين سابقين؛ الأول اتفاق تفاهم تم توقيعه عام 2014 مع تركيا حول المياه، والثاني هو الاتفاقية الإطارية التي تم توقيعها خلال زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى بغداد في 2024 فالاتفاقية التي وقعت بين تركيا والعراق حاليا تضم فقراتها أن الاطلاقات المائية ستكون بإشراف وإدارة تركيا، الى جانب إدارتها للبنى التحتية المائية, سدود وتوزيع الاطلاقات إدارة المياه بشكل مطلق ولمدة 5 سنوات على أن يعاد تسليمها إلى العراق بعد المدة المتفق عليها ,كما أن كل التقنيات اللوجستية والفنية الخاصة ببناء السدود والبنى التحتية ستكون بإدارة تركيا حصرا على ان يقوم فريق استشاري من البلدين بتحديد مشاريع المياه المطلوبة وأولويتها، وذلك بناء على طلبات الجهات المعنية في العراق لتنفذ من قبل الشركات التركية المتخصصة حصرا وتمول هذه الشركات من حساب خاص من ايراد النفط.
مشاريع الحصاد
وبحسب المعلومات المتوفرة، ستشهد المرحلة الأولى ثلاثة مشاريع لحصاد المياه وثلاث مبادرات لاستصلاح الأراضي، من بينها؛ بناء وتحديث السدود والبنية التحتية للمياه، تحسين نظم الري والقنوات، مشاريع تحلية المياه وتنقيتها، مشاريع الحماية من الفيضانات والجفاف، وأنظمة الصرف الصحي والمعالجة .
لقد طُرحت تساؤلات عن طبيعة الاتفاق والبنود التي تضمنتها، وتأثيرها المحتمل على الأمن المائي في العراق، وفي الوقت الذي أكدت فيه الحكومة العراقية أن الاتفاق يصب في صالح البلاد،
ومكسبًا للعراق كما تروج لها الحكومة ،عدّه خبراء نكسة حقيقية ستجعل العراق جزءًا من سياسة تركيا الاقتصادية والعسكرية، وتمنحها اليد العليا في إدارة شريان الحياة العراقية، لذا جاء التخوف من رهن القرار المائي بالملفَّين الاقتصادي والسياسي , لذا فالاتفاقية تمثل تفريطًا كاملًا في حقوق العراق المائية، وشرخًا كبيرًا في سيادته التي أصبحت رهينة لمشاريع تركيا التنموية، حيث أصبحت المياه العراقية جزءًا من حوض الفرات التركي، وأن العراق سيواجه تبعات هذه الاتفاقية على المدى الطويل, فتركيا ستحصل على جميع المعطيات المتعلقة بالأرض والموارد العراقية، بما فيها المعلومات الديموغرافية، ما يعزز سيطرتها على الأمن المائي والغذائي , وان الشركات في العراق ستحصل على مبالغ ضخمة مقابل مشاريع بسيطة لا تحتاج إلى عبقرية, لذا فالاتفاق ما هو الا استعمارً مائيً” جديدً للعراق، حيث يمنح تركيا نفوذًا كبيرًا على موارده المائية لانه يمنح الشركات التركية إمكانية الدخول بمشاريع حيوية في العراق، مثل إنشاء سدود صغيرة ومتوسطة، وتطوير تبطين الأنهار وتحويل مياه الأمطار إلى الأنهار، وتقنيات حصاد المياه في الاتفاق الذي شمل منطقة الصحراء الغربية فقط، ولا يساهم في توفير المياه للمناطق التي تعاني من الشح المائي في السهل الرسوبي”، فالسدود الصغيرة المقترحة لن تكون قادرة على معالجة أزمة المياه في المناطق الزراعية المروية حالياً، بل ستعمل على تعزيز الخزن الجوفي في الصحراء الغربية، وهو حل غير كافٍ لمعالجة الشح المائي , وتشمل الاتفاقية تمويل هذه المشاريع من خلال مبيعات النفط العراقي , ومن العيوب القاتلة في الاتفاقية انها من تحدد حصص العراق المائية بوضوح، فكان العراق «الحلقة الأضعف» فيها لأنه بلد مصب، لذا استمرار هذه السياسات المائية المتلكئة قد تصل البلاد إلى «مرحلة كارثية» تهدد الأمن الغذائي والاجتماعي خاصة بعد فقدان الخطة الزراعية الصيفية وتوقف الخطة الشتوية، الأمر الذي قد يثير احتجاجات شعبية ويشكّل تهديدا للعملية السياسية برمتها.
لقد افتقر الاتفاق للمواصفات الأساسية للاتفاقات المائية، مثل تحديد الحصص النسبية للمياه خلال السنوات المائية المختلفة, المتوسطة، الجدباء، والرطبة، خاصة وأن الحديث عن تأثير التغيرات المناخية في نقص المياه هو حديث غير منصف، في ظل وجود كميات ضخمة من المياه المخزنة في السدود التركية والتي تستغل في الزراعة الصيفية في تركيا، بينما يعاني الفلاح العراقي من حرمانه من الزراعة الصيفية والشتوية , وأن كمية المياه المعلن إطلاقها، البالغة مليار متر مكعب، لا تسمن ولا تغني من جوع، وأن الدفعات المائية القادمة قد تحرك المياه الآسنة في الأنهار فقط، ولا تعالج الأزمة .
موارد طبيعية
فتركيا قد تسعى لاستخدام الاتفاقية كأداة لتوسيع نفوذها في العراق، خاصة في ظل مساعيها لرفع التبادل التجاري مع العراق إلى نحو 30 مليار دولار سنويًا، ما يجعل العراق في موقف صعب، حيث يُمكن أن تكون المياه والموارد الطبيعية العراقية عرضة للمساومة في مقابل مصالح اقتصادية أخرى، ما يعزز الضغط التركي على بغداد في العديد من الملفات الشائكة.
أن أخطر ما في الاتفاقية، هو أنها تسمح لأنقرة باستثمار مياه العراق بدلًا من أن تكون ملكًا للعراقيين.
أن تمويل المشاريع سيكون من خلال مبيعات النفط العراقي، ما يثير تساؤلات حول مدى استدامة هذه الآلية في ضوء التقلبات الاقتصادية وأسعار النفط، ، إلا أن مخاوف أثيرت من اعتماد العراق بشكل مفرط على هذه الطريقة، ما قد يعرّضه لمخاطر اقتصادية في حال حدوث تراجع في أسعار النفط أو تغيرات في السوق العالمية .
الا ترون أن الاتفاقية ما هي الا ورقة ضغط على العراق في ملفات حساسة مثل ملف حزب العمال الكردستاني، وجود القوات التركية على الأراضي العراقية، والجوانب الاقتصادية.
من المعلوم أن الاتفاقية أُعدت دون إشراك البرلمان أو اطلاع الشعب العراقي على بنودها، ما يستدعي عقد جلسة طارئة للبرلمان بهدف مناقشتها لضمان الشفافية وحماية مصالح البلاد”، فالإشراف التركي على إدارة الملف المائي لمدة خمس سنوات ليس جديداً، وتركيا تسعى لهذا الأمر منذ سنوات طويلة.
للاسف كان للعراق ورقة تفاوضية قوية لم يستخدمها تتمثل في الميزان التجاري المختل بشدة بين البلدين، إذ يبلغ حجم الاستيراد السنوي من تركيا نحو 16 مليار دولار، مقابل صادرات عراقية لا تتجاوز المليار دولار انها فجوة بـ»الثقل الاقتصادي الكبير الذي يجب توظيفه لتحقيق المصالح المائية للعراق .
والتساؤل الاهم للوفد العراقي الفني المفاوض ..لماذا هذا التوقيت في ابرام الاتفاق ؟ الم يكن اولى ان يحصل في فصل الصيف لنتمكن الاستفادة من المياه المطلقة لغرض الخطة الزراعية للموسم الصيفي التي الغيت ..الا ترون ان توقيت الاتفاقية لاطلاق مليار م3 من المياه التركية المخزونة في سدودهم والبالغة 90 مليار م3 في دجلة والفرات سوف لا تؤثر عليهم لاننا مقبلين على الموسم الشتوي لتساقط الامطار؟
*دكتوراه في ادارة المياه والتربة - عضو جمعية المياه الاسترالية 2008- 2010
https : // ORCID.org/0000-0002-0323-7957
raji_ali_1961@yahoo.co.uk