الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الولايات المتحدة على حافة العجز البنيوي

بواسطة azzaman

الولايات المتحدة على حافة العجز البنيوي

محمد علي الحيدري

 

في قلب النظام المالي العالمي، تواجه الولايات المتحدة تحدياً يتجاوز الأرقام المجردة ويدخل في صلب جدلية الدولة وقدرتها على الحكم: الدين العام الأمريكي، الذي تجاوز عتبة 33 تريليون دولار في يونيو 2025، لم يعد مجرّد مسألة حسابية أو خلاف حزبي حول أولويات الإنفاق، بل تحوّل إلى تعبير مكثف عن أزمة حكم مزمنة تهدد الأساس المالي، والسياسي، وحتى الأخلاقي للقيادة الأميركية.

سنوات اخيرة

تُراكم واشنطن ديوناً بوتيرة أسرع من نمو اقتصادها، وبات حجم الدين يعادل 120 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، في مشهد يذكّرنا بمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لكن من دون مبرر تعبوي أو وطني جامع. وإذا كانت حروب الماضي، أو أزمات مثل الجائحة، تفسّر القفزات المفاجئة في الاقتراض، فإن الاستمرار في نمط الإنفاق والعجز خلال السنوات الأخيرة يكشف عن خلل أعمق: إنكار سياسي طويل الأمد لطبيعة الأزمة، وهروب متعمد من اتخاذ قرارات مؤلمة لكن ضرورية.

المعضلة لا تكمن فقط في تضخم الأرقام، بل في تآكل الإرادة السياسية أمام لوبيات المصالح، واستقطاب حزبي عقيم، وعجز هيكلي في النظام الضريبي الذي يكافئ الشركات الكبرى والأفراد ذوي الدخل العالي أكثر مما يمول الدولة. لقد باتت الفوائد السنوية على الدين تقترب من 700 مليار دولار – أي ما يقارب ميزانية الدفاع – في وقت يُطلب فيه من الدولة الأميركية الحفاظ على تفوقها العسكري، وريادتها التكنولوجية، ومظلتها الاجتماعية، دون موارد مستدامة.

كل ذلك في سياق ديمغرافي ضاغط، حيث تتراجع نسبة السكان في سن العمل، وتتصاعد أعباء برامج الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية، في تزامن مع موجة تضخمية أجبرت الاحتياطي الفيدرالي على رفع أسعار الفائدة، مما زاد من كلفة الاقتراض الحكومي. هي دائرة مغلقة لا تنكسر إلا بصدمة سياسية إيجابية، أو بأزمة مالية مدوية.

أما السيناريو الأخطر، فهو تراكم “الإنهاك التدريجي”: تراجع الاستثمارات العامة في التعليم والبنية التحتية، هشاشة الأمن الاجتماعي، تصاعد فجوات التفاوت الطبقي، وتآكل الثقة العالمية في قدرة أميركا على ضبط ماليتها العامة.

والمفارقة أن هذه التداعيات قد لا تأتي من الخارج – لا من بكين ولا من موسكو – بل من الداخل، من واشنطن نفسها، ومن بيروقراطية عاجزة، ومن كونغرس باتت معاركه رمزية أكثر من كونها تشريعية.

إن تحصين الاقتصاد الأميركي لا يتم فقط من خلال الابتكار أو التفوق العسكري، بل من خلال إعادة بناء التوافق السياسي حول معنى الدولة والغاية من الموازنة. وهذا يتطلب، أولاً، كسر المحرمات الأيديولوجية التي تجعل من زيادة الضرائب على الأثرياء أو إعادة هيكلة البرامج الاجتماعية خطوطاً حمراء، رغم أنها قد تكون أدوات النجاة الأخيرة.

الولايات المتحدة لا تزال تملك كل مقومات التعافي: اقتصاد ضخم، قاعدة علمية وتقنية فريدة، عملة احتياط عالمي، ونفوذ سياسي واسع. لكن هذه الأصول لا تعني شيئاً إذا لم تُقرن بحوكمة مالية رشيدة، وشجاعة سياسية حقيقية. إن تجاهل الأزمة، أو تأجيل مواجهتها، لن يؤدي إلا إلى تضخيم ثمنها، وربما تقويض موقع الولايات المتحدة كركيزة للاستقرار العالمي.

في عالم يبحث عن توازنات جديدة، لا تستطيع أميركا أن تقود الآخرين وهي تعاني من عجز داخلي في اتخاذ القرار. الأزمة اليوم ليست مجرد أرقام في تقرير الخزانة، بل هي مرآة تعكس أزمة نظام، وربما أزمة رؤية، تنتظر من يعيد تعريف الممكن قبل أن تفرض الحقائق حدود المستحيل.

 


مشاهدات 324
الكاتب محمد علي الحيدري
أضيف 2025/06/04 - 3:52 PM
آخر تحديث 2025/06/06 - 12:45 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 255 الشهر 5139 الكلي 11139793
الوقت الآن
الجمعة 2025/6/6 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير