أمريكا .. يمين صاعد ويسار قَلِق
صراع على معنى الديمقراطية
محمد علي الحيدري
لم يعد الصراع بين اليمين واليسار في الولايات المتحدة مجرد تنافس على برامج انتخابية أو أولويات اقتصادية، بل تحوّل إلى مواجهة وجودية حول من يملك الحق في تعريف الديمقراطية وحدودها. ما نشهده اليوم هو انقسام يتجاوز الخلافات التقليدية ليطال جوهر العقد الاجتماعي الأميركي: حرية التعبير، دور الدولة، ومعنى الانتماء الوطني.
اليمين الأميركي، ممثلاً بتيارات شعبوية جريئة، يقدّم نفسه حارسًا للحرية الفردية في مواجهة ما يراه تغوّلًا للمؤسسات والنخب الليبرالية التي تفرض قيودًا على الخطاب العام بذريعة حماية المجتمع. في المقابل، يرى اليسار أنّ ضبط الفضاء الإعلامي والسياسي ضرورة لصيانة الديمقراطية من خطاب الكراهية والمعلومات المضللة التي تهدد السلم الأهلي وتُضعف الثقة بالمؤسسات. هذا التباين لم يعد يُدار بأدوات الحوار الديمقراطي المعتادة، بل بات يتخذ شكل معارك قانونية وإعلامية وثقافية متواصلة، وكأن أميركا انزلقت إلى ساحة اختبار دائم لمفهوم الحرية نفسه.
تأمين صحي
خطورة هذا المسار أنّه يضرب في عمق الهوية السياسية الأميركية. فالمواجهة لم تعد تدور حول حجم الضرائب أو طبيعة التأمين الصحي، بل حول الأسئلة الجوهرية: من يحق له أن يحدد ما يقال وما يُمنع؟ من يمتلك الشرعية لتأطير الخطاب العام؟ وهل الديمقراطية تعني حرية مطلقة في التعبير مهما كانت النتائج، أم مسؤولية مشتركة في صيانة التوازن الاجتماعي؟
ن هنا، يظهر أنّ الصراع بين اليمين واليسار ليس مجرد انعكاس لانقسامات ظرفية، بل هو تجسيد لتحول أعمق في الثقافة السياسية الأميركية. فحين يتآكل الإيمان بقواعد اللعبة الديمقراطية نفسها، يصبح الخطر الأكبر ليس في فوز هذا الطرف أو خسارة ذاك، بل في اهتزاز السقف الذي يجمع الجميع. المستقبل القريب سيكشف إن كانت الولايات المتحدة قادرة على إعادة بناء توافق وطني يعيد التوازن بين الحرية والضبط، أم أنّها ستواصل الانزلاق في مسار استقطاب يجعل من كل انتخابات معركة بقاء، ومن كل خلاف سياسي حرب هوية تهدد كيان الدولة ومشروعها الديمقراطي.