التغريبة
وجيه عباس
ماذا يُخيفُك في انصرافِكَ راحلا
مدنٌ وأخرى لم تَلِدْكَ مَنازِلا
مثّلتَ دورَكَ في الثرى وَكَأنَّما
أَنْقصْتَ أو زدتَ الحِوارَ تماثلا
وخرجتَ منها رغم أنفِكَ طائعاً
ووجدتَ قبرَكَ في التراب اراملا
قد عشتَ قدْرَكَ في الحياة ولم تكن
فيما اشتهيت لدى التقاضي عادلا
الحقُّ أن تمضي وراءَكَ مثلما
ترك الجميعُ على الظهور مخايلا
أبقاكَ اسئلة تجولُ بخاطرٍ
حتى إذا ما مُتَّ... كنتَ تساؤلا
*****
أفناكَ من أحياكَ فيها عِلَّةً
ويداك لم تدفعْ هناك غوائلا
افتح ذراعيك، الشواطيءُ حيلةٌ
لو أنَّها اقتربتْ عَلَتْكَ مناهلا
وَلَو أنّها ابتعدتْ، لكنتَ غمامةً
فيها وَأثَّثتَ الرمالَ هياكلا
كُنْ مثل ذاتِكَ خالياً في جُنَّةٍ
والظلُّ وحدك كان فيها الشاغلا
*****
إعطِ التمرُّدَ حقَّهُ فَلِنقْصِهِ
حتى يراكَ بمقلتيهِ كاملا
كُنْ كيفَ شئتَ لأنَّكَ المرآةُ لم
تبصر سواك بها هناك مُشاكِلا
هي عرشُكَ المضنونُ، وحدك أهلُهُ
كُنْهُ استعارةَ ماتراهُ عواذلا
لكَ حزنُ هذي الأرض تحت ترابِها
ولعلَّها كانت هناك قبائلا
وَلَأنتَ بين النفيِ حرٌّ عاقلٌ
نظرَ الجهالةَ حولَهُ.....فتغافلا
*****
لا غيرَ ظلِّكَ صاحبٌ ومُحالُهُ
لو تدَّعيك تطابقاً وتماثُلا
حتى ثيابُكَ في العراءِ غريبةٌ
وكَأنَّها قد وحَّدتْك شمائلا
يا أيُّها المجهولُ بين حقائقٍ
عيَّتْ على الأشباه فيك أماثلا
كن آكلي ولربَّ مأكولٍ شكا
حتى غدا فيما تغابنَ آكلا
فلِأنَّ جهلَكَ في الخصامِ تَقِيَّةٌ
وأردتَها أن تستطيلَ مجاهلا
*****
مادون ذاتِكَ ألفُ نفيٍ لم تكن
ترضاهُ في هذي الحياة رسائلا
أيقنتَ أنَّ الكُلَّ فيكَ تَجمَّعوا
لكنَّهم زهدوا، فكنتَ الراحلا
لكنَّما القَدَرُ اجتباك لأنَّه
حاديك فيهم ركبَهُ ورواحلا
معنى اصطفائكَ أن تكونَ طريفَهُ
وتليدُهُ أن كنتَ فيهِ هازلا
كُن مثل موتِكَ لافراغٌ بعده
ولأنَّك الرائي وجدتُكَ فاصلا
مازدتَ ادراكاً وليس بوسعِهِ
أن يبتديكَ الشعرُ فيها هاطلا
ولأنَّ فكرتَكَ الغريبةَ أوَّلٌ
الأشياء كنتَ على القديمِ أوائلا
كنتَ الأعالي نجمةً لترى الثرى
لتعودَ غيرَكَ بالحقيقةِ ماثلا
لا حرفَ للتأريخ يصدقُ ظنَّهُ
بقيا أساطيرٍ تقيمُ أراذلا
*****
يامُستفزَّ الصمت عزلةُ نفسِهِ
أقحمتَ فيها الحرفَ روعاً ذاهلا
وقوامَهُ كان النخيلُ زمانُهُ
حسب النخيلِ بأن تكون الناحلا
نَغَمٌ وأفسحُ من ثنايا عودِهِ
وأرقُّ ماغنى الزمانُ عنادلا
وَشَدوتَ لم تحسبْ عواديَ ضيعةٍ
لو مرَّ فيها الدهرُ يوماً غافلا
هذا متاعُكَ والقليلُ بضاعةً
أن كنتَ تجزيها التراضي سائلا
وإذا تأَبَّتْ كان صبرُك دونها
ثِقلاً عليها لا عليكَ تثاقُلا
الصمتُ يولغُ في حروفِكَ وجهَهُ
فإذا نطقتَ أَبَنْتَ صوتَكَ غازلا
سجّادةُ الكلمات بعضُكَ إنَّما
سجدتْ نواصيها وكنتَ القائلا
وَغَزلتَ لم تُوْحِشْكَ بعضُ عجائبٍ
ولأنتَ أعجبُها هناك مَغازُلا
*****
كُنْ أنتَ فيها من يقولُ لنفسه:
كُن أيُّها القبسُ الإلهي جاعلا
حتى لو اختلفتْ مقاييسٌ بها
ورأيتَ أنَّ الحقَّ أضحى باطلا
دعهم لما خُلِقوا، فأنتَ مُخَلَّقٌ
لِتُريْهُمُ هذي العيونَ مكاحلا
خرجوا فلما اسْتيأَسوا بغرابةٍ
كنت الغريبَ بهم وكنتَ الداخلا
وَأَريْتَهم عِللَ الوجودِ وإنَّها
حتمٌ عليكَ بأن تكونَ الفاضلا
*****
يابن المعاني والمباني أُسرجتْ
هذي الخيولُ فكنت فيها صاهلا
شاءتْ لك السِوَرُ الطوالُ بأنَّكَ
الموعودُ أن تحيا بصمتك قائلا
وَتَخيَّرتْكَ وقد تَعَسَّرَ طلقُها
أن تجتبيك جداولاً وجداولا
كنتَ الجديدَ على قديمٍ شاهقٍ
حتى وكنتَ على الجديدِ مُجادِلا
أوقدتَهُ وَجَعاً يسيلُ بجمرِهِ
دِفئاً وأوقدتَ البحورَ مشاعلا
حتى وجدتُكَ في القوافي جمرةً
تُغري وإنْ كانت شتاءاً عاطلا
*****
كُنْ حيثُ تبتكرُ المعاني نفسها
فلِأنَّها ورثت يداك أناملا
كُنْ قوسَها وسهامَها فَلِأنَّها
صاغتْكَ لما أورَدَتْك مَقاتِلا
وَلَروحُكَ الحركاتُ بين سكونِها
فَلِأنَّها قَرَأَتْكَ فيها فاعلا
ضمَّتكَ حتى لا يبينُ بحرفِها
كسرٌ وكان مُضافُهُ بك نازلا
يا أيُّها البَدَلُ الذي لم يتَّضِعْ
لسواهُ حتى انحلوهُ بدائلا
كن حيث تبتكرُ الغرابةُ نفسَها
حتى تميز بها القتيلَ القاتلا
*****
أنا من يُقلِّبُ في الحروف عيونَهُ
وكَأنَّ ثالثةً تُريكَ بدائلا
وَكَأنَّما قدرُ البواطن أن أرى
ولكَ الظواهرُ أن تراه مَشاغِلا
للحرفِ روحٌ حين احملُ صوتَهُ
سالتْ دماهُ على يديَّ نوازلا
وإذا همستُ بأنملي وحياً به
حملت حروفي بالحروفِ معاولا
فتعيدُ تشكيل المعاني مرَّةً
أخرى، كأنّي كنت فيها ناخلا
صورٌ تريكَ مدائناً مسكونةً
عقمتْ سواها أن تريكَ أماثلا
لا عهد فيها للقديم وإنما
أبقيتُ وجهي في صداها ناقلا
لا الاحجياتُ وكنتُ أوضحَ لفظةٍ
وقف الزمان على ثراها باذلا
كنها خسارات فأربحُ عزلةٍ
ان كان أعلمُهم تراهُ جاهلا