من ألف النعم نسي شكرها ولا يشعر بالنعم إلا من فقدها
ثامر مراد
في هذه الجملة الجميلة، يكمن حكمٌ عميقٌ يتناول علاقة الإنسان بالنعم التي يهبها الله تعالى له، وكيف يظل أغلب البشر غافلين عنها حتى تُسحب منهم، ليكتشفوا بعدها قيمة ما كانوا يتمتعون به. فما إن يعتاد الإنسان على شيء ما، حتى يصبح جزءًا من حياته اليومية، ولا يلتفت إليه إلا في حال فقدانه. وهذه هي سنة الحياة التي يتجاهلها الكثيرون حتى يصطدموا بالواقع، فتُفتح أمامهم أبواب الوعي، وتُسمع قلوبهم الأصوات التي كانوا يغمضون آذانهم عنها طيلة الزمن. الحياة مليئة بالنعم التي لا تُعد ولا تُحصى، بدءًا من النعم المادية مثل الطعام والشراب والمسكن، وصولًا إلى النعم النفسية مثل الصحة والراحة النفسية والعلاقات الاجتماعية الطيبة. ولكن الإنسان عادةً ما ينسى شكر هذه النعم كلما كثرت وتراكمت. يقول البعض: "لقد اعتدت على ذلك، ولم يعد يشعرني بالدهشة أو الامتنان." وعندما تكون النعم جزءًا أساسيًا من حياتنا، يصبح الأمر عاديًا، بل من الطبيعي أن نتوقع المزيد. في هذه الحالة، ينسى الإنسان أن هناك ملايين الأشخاص في أماكن أخرى من العالم الذين لا يمتلكون ما يمتلكه. كما ينسى أن ما هو بديهيًا بالنسبة له، قد يكون معجزة لشخص آخر. عندما يكون لديك شيء ما على الدوام، تبدأ في التمسك به كمفردة من مفردات حياتك اليومية، وتقل تدريجيًا قدرتك على تقديره. لا يعود لديك ذلك الشعور بالعجب والدهشة أمامه. يمكنك أن تجد مثالًا لذلك في مواقف عديدة، مثل صحة الإنسان: لا يشعر الشخص عادةً بقيمة صحته إلا حينما يمرض أو يفقد جزءًا من قدراته الجسدية أو العقلية. فالصحة، التي كانت في يوم من الأيام هبة طبيعية، تصبح فيما بعد من أعظم النعم التي يفتقدها الإنسان بمجرد أن يفقدها. ينسى البشر عادةً شكر النعم حين يطغى عليهم شعور بالاستحقاق. إذا نظر الإنسان إلى ما يملكه من وجهة نظر "أنا أستحق هذا" أو "أنا عملت بجد للحصول على هذا"، فإنه لا يقدّر النعم كما يجب. في هذه الحالة، يرى أن النعم هي ثمرة لجهوده، لا هدية من الله. هذا الفهم قد يجعل الإنسان في حالة من الغفلة، حيث لا يلتفت إلى أن كل شيء في هذه الحياة ليس بالضرورة بجهد فردي، بل هو جزء من التدبير الإلهي، وقدرة الله على منحنا النعم وفقًا لخطته. الأمر لا يتوقف هنا. فإن الإنسان في ظل التقدم التكنولوجي والمادي الذي يعيش فيه اليوم، قد ينسى فضل النعم عليه. التكنولوجيا أصبحت جزءًا من حياتنا اليومية، وأصبحنا نعتبر الأشياء التي كان الحصول عليها في الماضي صعبًا، أمورًا بديهية وسهلة. فلا نقدر قيمة الوقت الذي كان يتطلبه السفر من مكان إلى مكان، أو المجهود الذي كان يبذل في نقل المعلومات، أو حتى الجهد البدني الذي كان يتطلبه العمل. اليوم، أصبحت هذه الأمور جزءًا من روتيننا اليومي، ولا نعي مدى تطور الحياة الذي تحقق. يحدث أن يسحب الله منا النعم ليرينا حجمها، فيصبح الإنسان أكثر إدراكًا لقيمتها بعد أن يفقدها. فالعديد من الأشخاص لا يدركون نعمة صحتهم إلا عندما يمرضون، ولا يدركون نعمة وجودهم في وطن آمن إلا حينما يواجهون الاضطراب أو التهديد. وكم من شخص فقد والديه أو أحبته ليكتشف بعد ذلك كم كان محتاجًا إلى وجودهم، فكان في حياته مصدر للسعادة والراحة. الشعور بالندم على ما فُقد يوقظ في النفوس مشاعر الشكر والامتنان، ويُدرك الإنسان حينها أنه كان محاطًا بالكثير من النعم التي لم يكن يلاحظها في السابق. لكن، للأسف، غالبًا ما يكون الندم على ما فقدناه هو المعلم الوحيد الذي يثير فينا هذه الحقيقة. قد تكون تجربة فقدان النعمة هي الوحيدة التي تكشف لنا كم كانت الحياة أفضل بوجودها، وكم كان علينا أن نقدرها بينما كانت بين أيدينا. إذا كنا نرغب في تجنب غفلة النعم، يجب أن نُدرّب أنفسنا على الشكر والامتنان قبل أن نفقد النعمة. يمكن أن يكون ذلك بالتأمل في نعم الله التي تحيط بنا، والتوقف بشكل دوري للتفكير في ما نحن فيه من نعم. التقدير الواعي للنعم من حولنا يساهم في زيادة شعورنا بالامتنان، ويساعدنا على تعزيز علاقتنا بالله سبحانه وتعالى. من المهم أن نعلم أن الشكر لا يكون بالكلمات فقط، بل بالأفعال. إذ يمكننا أن نُظهر امتناننا على النعم التي نمتلكها من خلال استخدامها في الخير، ومساعدة الآخرين، وتعزيز قيم الإحسان في حياتنا اليومية. فكل نعمة نتمتع بها هي أمانة في رقبتنا، ويجب علينا أن نستخدمها بطريقة تعود بالنفع على المجتمع وعلى من حولنا.