الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الشاعر‭ ‬والبلاد‭ ‬‭(‬27‭)‬

بواسطة azzaman

الشاعر‭ ‬والبلاد‭ ‬‭(‬27‭)‬

 

حسن‭ ‬النواب

 

حين‭ ‬سمع‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬نبأ‭ ‬موافقة‭ ‬الفتاة‭ ‬البصرية‭ ‬على‭ ‬الاقتران‭ ‬به؛‭ ‬أخذ‭ ‬يتدحرج‭ ‬مثل‭ ‬قنفذٍ‭ ‬على‭ ‬أرضية‭ ‬الغرفة‭ ‬من‭ ‬فرطِ‭ ‬فرحتهِ‭ ‬أمام‭ ‬أنظار‭ ‬الشاعر‭ ‬كمال‭ ‬العبدلي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬معهُ‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت؛‭ ‬وقد‭ ‬انفجر‭ ‬بقهقهة‭ ‬متواصلة‭ ‬ضجَّ‭ ‬فيها‭ ‬المكان‭. ‬انتهى‭ ‬مهرجان‭ ‬الشعر‭ ‬العراقي‭ ‬الآن؛‭ ‬فيما‭ ‬بدأ‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬بامتحان‭ ‬عسير‭ ‬وطريق‭ ‬شائك‭ ‬لتجهيز‭ ‬مستلزمات‭ ‬الزواج‭ ‬بجيوب‭ ‬تصفر‭ ‬في‭ ‬جوفها‭ ‬الريح‭ ‬من‭ ‬الإفلاس‭. ‬أول‭ ‬الذين‭ ‬دعمه‭ ‬بمشروع‭ ‬الزواج‭ ‬كان‭ ‬صديقه‭ ‬الشاعر‭ ‬سلمان‭ ‬داود‭ ‬محمد؛‭ ‬ولهذه‭ ‬الصداقة‭ ‬حكاية‭ ‬بدأت‭ ‬قبل‭ ‬عام؛‭ ‬إذْ‭ ‬كان‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬يقف‭ ‬أمام‭ ‬مكتبة‭ ‬الإنسان‭ ‬القريبة‭ ‬من‭ ‬جسر‭ ‬السنك‭ ‬يتصفَّح‭ ‬على‭ ‬عجلٍ‭ ‬المجلات‭ ‬المعلَّقة‭ ‬على‭ ‬خيوط‭ ‬أمام‭ ‬بابها؛‭ ‬ذات‭ ‬نهار‭ ‬دخل‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬المكتبة؛‭ ‬جذب‭ ‬انتباهه‭ ‬حوضاً‭ ‬صغيراً‭ ‬تعوم‭ ‬في‭ ‬مائه‭ ‬الزلال‭ ‬ثلاث‭ ‬سمكات‭ ‬ذهبية؛‭ ‬فيما‭ ‬كان‭ ‬صاحب‭ ‬المكتبة‭ ‬يضع‭ ‬سيجارة‭ ‬بزاوية‭ ‬فمه‭ ‬مع‭ ‬ابتسامة‭ ‬فاترة‭ ‬على‭ ‬ملامح‭ ‬وجهه؛‭ ‬سأل‭ ‬عن‭ ‬مجلة‭ ‬اليوم‭ ‬السابع؛‭ ‬فأجابه‭ ‬لقد‭ ‬تمَّ‭ ‬منعها؛‭ ‬وقبل‭ ‬خروجه‭ ‬سمع‭ ‬صاحب‭ ‬المكتبة‭ ‬يسألهُ‭:‬

‭-  ‬لماذا‭ ‬تريد‭ ‬هذه‭ ‬المجلة؟

‭- ‬لأني‭ ‬أنشر‭ ‬قصائدي‭ ‬على‭ ‬صفحاتها‭.‬

‭- ‬من‭ ‬حضرتك؟

أخبرهُ‭ ‬عن‭ ‬اسمه؛‭ ‬وإذا‭ ‬بصاحب‭ ‬المكتبة‭ ‬يترك‭ ‬المقعد‭ ‬ويتقدَّم‭ ‬نحوه‭ ‬مهلهلاً؛‭ ‬صافحه‭ ‬بحماس‭ ‬ودعاهُ‭ ‬للجلوس؛‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬قدَّم‭ ‬لهُ‭ ‬كأساً‭ ‬من‭ ‬الجٍِنْ‭ ‬أمام‭ ‬ذهول‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الضيافة‭ ‬السخيَّة‭. ‬انبرى‭ ‬صاحب‭ ‬المكتبة‭ ‬يتكلَّم‭ ‬عن‭ ‬محاولاته‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬الشعر؛‭ ‬وعرض‭ ‬أمامه‭ ‬نصوصاً‭ ‬نشرتها‭ ‬مجلة‭ ‬كويتية‭ ‬في‭ ‬بريد‭ ‬القرَّاء؛‭ ‬سألهُ‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬إنْ‭ ‬كانت‭ ‬بحوزته‭ ‬قصيدة‭ ‬جديدة‭ ‬قد‭ ‬كتبها؛‭ ‬فوضع‭ ‬بيده‭ ‬قصيدة‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬عاهة‭ ‬إبليس»؛‭ ‬قرأها‭ ‬على‭ ‬مهل‭ ‬وأعجبتهُ؛‭ ‬ليقترح‭ ‬عليه‭ ‬فكرة‭ ‬نشرها‭ ‬في‭ ‬الجريدة؛‭ ‬ابتهج‭ ‬لذلك‭ ‬ممتنَّاً‭. ‬بعد‭ ‬مضي‭ ‬أسبوع‭ ‬نُشرتْ‭ ‬القصيدة‭ ‬تحمل‭ ‬اسم‭ ‬صاحب‭ ‬المكتبة‭ ‬سلمان‭ ‬داود‭ ‬محمد‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬الجمهورية‭ ‬وكان‭ ‬الشاعر‭ ‬عبد‭ ‬الزهرة‭ ‬زكي‭ ‬مشرفاً‭ ‬على‭ ‬صفحتها‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭. ‬تكررت‭ ‬زيارة‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬إلى‭ ‬مكتبة‭ ‬الإنسان؛‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬يمضي‭ ‬ظهيرة‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬هناك؛‭ ‬فيما‭ ‬تركت‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬عاهة‭ ‬إبليس‮»‬‭ ‬ردود‭ ‬فعل‭ ‬إيجابية‭ ‬لدى‭ ‬الوسط‭ ‬الثقافي؛‭ ‬ولذا‭ ‬بات‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬يزورون‭ ‬مكتبة‭ ‬الإنسان‭ ‬للتعرف‭ ‬على‭ ‬شاعر‭ ‬تلك‭ ‬القصيدة؛‭ ‬ومنهم‭ ‬القاص‭ ‬اللامع‭ ‬عبد‭ ‬الستار‭ ‬ناصر‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬لا‭ ‬يفارق‭ ‬المكتبة؛‭ ‬وحين‭ ‬وجد‭ ‬الشاعر‭ ‬سلمان‭ ‬داود‭ ‬محمد‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬مهموماً‭ ‬وحائراً‭ ‬بتجهيز‭ ‬أثاث‭ ‬عرسه؛‭ ‬لم‭ ‬يقف‭ ‬مكتوف‭ ‬اليدين‭ ‬إذْ‭ ‬بادر‭ ‬لوضع‭ ‬رزمة‭ ‬نقود‭ ‬بيده‭ ‬قائلاً‭ ‬بغبطةٍ‭:‬

‭- ‬أذهب‭ ‬واشتر‭ ‬لوازم‭ ‬عرسك‭.‬

وقبل‭ ‬مغادرة‭ ‬صديق‭ ‬الغجري؛‭ ‬سألهُ‭ ‬سلمان‭:‬

‭- ‬ما‭ ‬هذا‭ ‬القميص‭ ‬الرث‭ ‬الذي‭ ‬ترتديه؟

‭- ‬لا‭ ‬أملك‭ ‬سواهُ‭.‬

‭- ‬أنتَ‭ ‬عريس‭ ‬ولا‭ ‬يصح‭ ‬أن‭ ‬تراك‭ ‬عروسك‭ ‬بهذه‭ ‬الصورة‭ ‬البائسة‭. ‬

وإذا‭ ‬بالشاعر‭ ‬سلمان‭ ‬يخلع‭ ‬قميصه‭ ‬القشيب‭ ‬ليكون‭ ‬أنبل‭ ‬وأجمل‭ ‬ذكرى‭ ‬على‭ ‬بدن‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬الذي‭ ‬تمكَّن‭ ‬من‭ ‬شراء‭ ‬غرفة‭ ‬زواج‭ ‬مستعملة؛‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أرشده‭ ‬على‭ ‬وجودها‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬شلَّال‭ ‬صديقه‭ ‬الشاعر‭ ‬حسين‭ ‬الصعلوك‭ ‬والذي‭ ‬حرص‭ ‬على‭ ‬مرافقته‭ ‬حتى‭ ‬وصول‭ ‬غرفة‭ ‬الزواج‭ ‬إلى‭ ‬مدينته‭ ‬المقدَّسة‭ ‬حيث‭ ‬منزل‭ ‬أخته‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬أفرغت‭ ‬إحدى‭ ‬الحجرات‭ ‬لزواجه‭. ‬لكنَّ‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬باع‭ ‬مكتبته‭ ‬بعد‭ ‬أسبوعين‭ ‬والتي‭ ‬تحتوي‭ ‬على‭ ‬آلاف‭ ‬الكتب‭ ‬وكان‭ ‬ثمنها‭ ‬يكفي‭ ‬لإيفاء‭ ‬الدين‭ ‬إلى‭ ‬صديقه‭ ‬سلمان‭ ‬داود‭ ‬محمد‭. ‬أصبح‭ ‬زواج‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬وشيكاً‭ ‬من‭ ‬الفتاة‭ ‬البصرية‭ ‬لولا‭ ‬طلب‭ ‬والدها‭ ‬المفاجئ‭ ‬الذي‭ ‬أصرَّ‭ ‬على‭ ‬حضور‭ ‬وفد‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ ‬لطلب‭ ‬يد‭ ‬ابنته،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬تكاليف‭ ‬تكسر‭ ‬الرقبة‭ ‬لحمل‭ ‬هؤلاء‭ ‬الرجال‭ ‬من‭ ‬مدينته‭ ‬إلى‭ ‬البصرة؛‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يقوى‭ ‬عليها‭ ‬صديق‭ ‬الغجري؛‭ ‬حتى‭ ‬شاءت‭ ‬المصادفة‭ ‬أنْ‭ ‬يعقد‭ ‬ملتقى‭ ‬السياب‭ ‬هناك‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬المدعوين؛‭ ‬فانتخى‭ ‬صديقه‭ ‬الشاعر‭ ‬جواد‭ ‬الحطَّاب‭ ‬لكي‭ ‬يتكفَّل‭ ‬بهذه‭ ‬المهمة‭ ‬والذي‭ ‬نجح‭ ‬من‭ ‬إقناع‭ ‬شيخ‭ ‬وقور‭ ‬كان‭ ‬يجلس‭ ‬في‭ ‬صالة‭ ‬فندق‭ ‬شيراتون‭ ‬البصرة‭ ‬من‭ ‬الذهاب‭ ‬معهم‭ ‬لخطوبة‭ ‬الفتاة‭ ‬البصرية‭. ‬وهكذا‭ ‬انطلقت‭ ‬ثلاث‭ ‬سيارات‭ ‬أجرة‭ ‬من‭ ‬فندق‭ ‬الشيراتون‭ ‬محملة‭ ‬بالشعراء‭ ‬مع‭ ‬شيخ‭ ‬وقور‭ ‬إلى‭ ‬منزل‭ ‬الفتاة‭ ‬البصرية‭. ‬بدى‭ ‬المشهد‭ ‬مهيباً‭ ‬لصديق‭ ‬الغجري‭ ‬وهم‭ ‬يجلسون‭ ‬بالصالة‭ ‬الكبيرة‭ ‬مع‭ ‬والد‭ ‬الفتاة‭ ‬البصرية‭ ‬وأقاربها‭. ‬انبرى‭ ‬أحدهم‭ ‬يتكلم‭ ‬بشأن‭ ‬مهر‭ ‬الزواج‭ ‬فأجابهُ‭ ‬الحطَّاب‭ ‬بلغةٍ‭ ‬شاعريةٍ‭ ‬أفحمتهُ‭: ‬

‭- ‬ليكنْ‭ ‬نخيل‭ ‬البصرة‭ ‬مهراً‭ ‬لها‭.‬

هيمن‭ ‬سكونٌ‭ ‬جليلٌ‭ ‬على‭ ‬المكان؛‭ ‬حتى‭ ‬تعالت‭ ‬زغاريد‭ ‬أم‭ ‬وأخت‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬بإشارة‭ ‬إلى‭ ‬موافقة‭ ‬أهل‭ ‬الفتاة‭ ‬البصرية‭. ‬لم‭ ‬يبق‭ ‬أمامه‭ ‬سوى‭ ‬شراء‭ ‬ستائر‭ ‬جديدة‭ ‬إلى‭ ‬الغرفة‭ ‬ومقعد‭ ‬العروس‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬رغبة‭ ‬أم‭ ‬العروس؛‭ ‬هرع‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬إلى‭ ‬الشاعر‭ ‬كمال‭ ‬العبدلي‭ ‬وطرح‭ ‬عليه‭ ‬المأزق‭ ‬الذي‭ ‬يحاصرهُ؛‭ ‬فأخذ‭ ‬بيده‭ ‬إلى‭ ‬منزل‭ ‬فخم‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬أحد‭ ‬اقربائه،‭ ‬كان‭ ‬خادماً‭ ‬مصرياً‭ ‬قد‭ ‬استقبلهما‭ ‬عند‭ ‬الباب‭ ‬ليجلسا‭ ‬في‭ ‬حديقة‭ ‬الدار‭ ‬الغنَّاء؛‭ ‬وإذا‭ ‬برجل‭ ‬يرتدي‭ ‬دشداشة‭ ‬من‭ ‬الحرير‭ ‬يقبل‭ ‬نحوهما؛‭ ‬رحَّب‭ ‬بهما‭ ‬بحرارة‭ ‬وبدون‭ ‬مقدمات‭ ‬قال‭ ‬العبدلي‭: ‬

‭- ‬يا‭ ‬ابن‭ ‬العم؛‭ ‬صديقي‭ ‬مقبل‭ ‬على‭ ‬الزواج‭.‬

فهم‭ ‬الرجل‭ ‬الوقور‭ ‬مبتغى‭ ‬الكلام؛‭ ‬نهض‭ ‬وغاب‭ ‬لدقائق‭ ‬ثم‭ ‬عاد‭ ‬ليضع‭ ‬بيد‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬رزمة‭ ‬من‭ ‬النقود؛‭ ‬قال‭ ‬بنبرة‭ ‬حنون‭: ‬

‭- ‬هذه‭ ‬هدية‭ ‬زواجك‭.‬

‭ ‬بتلك‭ ‬النقود‭ ‬تمكَّن‭ ‬من‭ ‬شراء‭ ‬ستائر‭ ‬الغرفة،‭ ‬أما‭ ‬مقعد‭ ‬زينة‭ ‬العروس،‭ ‬فقد‭ ‬أهداهُ‭ ‬العبدلي‭ ‬مقعد‭ ‬زينة‭ ‬زوجته‭ ‬بموقف‭ ‬نبيل‭ ‬حمل‭ ‬الإيثار‭ ‬ونكران‭ ‬الذات؛‭ ‬فيما‭ ‬كانت‭ ‬عبرات‭ ‬الفرح‭ ‬تهطل‭ ‬مدراراً‭ ‬من‭ ‬عيني‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ينتظر‭ ‬يوم‭ ‬زفافه‭ ‬على‭ ‬أحرِّ‭ ‬من‭ ‬الشعر‭.‬

 

يتبع‭.. ‬


مشاهدات 154
الكاتب حسن‭ ‬النواب
أضيف 2024/08/26 - 3:38 PM
آخر تحديث 2024/08/31 - 9:13 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 93 الشهر 93 الكلي 9988715
الوقت الآن
الأحد 2024/9/1 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير