حسن النواب
حين سمع صديق الغجري نبأ موافقة الفتاة البصرية على الاقتران به؛ أخذ يتدحرج مثل قنفذٍ على أرضية الغرفة من فرطِ فرحتهِ أمام أنظار الشاعر كمال العبدلي الذي كان معهُ في ذلك الوقت؛ وقد انفجر بقهقهة متواصلة ضجَّ فيها المكان. انتهى مهرجان الشعر العراقي الآن؛ فيما بدأ صديق الغجري بامتحان عسير وطريق شائك لتجهيز مستلزمات الزواج بجيوب تصفر في جوفها الريح من الإفلاس. أول الذين دعمه بمشروع الزواج كان صديقه الشاعر سلمان داود محمد؛ ولهذه الصداقة حكاية بدأت قبل عام؛ إذْ كان صديق الغجري يقف أمام مكتبة الإنسان القريبة من جسر السنك يتصفَّح على عجلٍ المجلات المعلَّقة على خيوط أمام بابها؛ ذات نهار دخل إلى تلك المكتبة؛ جذب انتباهه حوضاً صغيراً تعوم في مائه الزلال ثلاث سمكات ذهبية؛ فيما كان صاحب المكتبة يضع سيجارة بزاوية فمه مع ابتسامة فاترة على ملامح وجهه؛ سأل عن مجلة اليوم السابع؛ فأجابه لقد تمَّ منعها؛ وقبل خروجه سمع صاحب المكتبة يسألهُ:
- لماذا تريد هذه المجلة؟
- لأني أنشر قصائدي على صفحاتها.
- من حضرتك؟
أخبرهُ عن اسمه؛ وإذا بصاحب المكتبة يترك المقعد ويتقدَّم نحوه مهلهلاً؛ صافحه بحماس ودعاهُ للجلوس؛ سرعان ما قدَّم لهُ كأساً من الجٍِنْ أمام ذهول صديق الغجري على هذه الضيافة السخيَّة. انبرى صاحب المكتبة يتكلَّم عن محاولاته في كتابة الشعر؛ وعرض أمامه نصوصاً نشرتها مجلة كويتية في بريد القرَّاء؛ سألهُ صديق الغجري إنْ كانت بحوزته قصيدة جديدة قد كتبها؛ فوضع بيده قصيدة بعنوان «عاهة إبليس»؛ قرأها على مهل وأعجبتهُ؛ ليقترح عليه فكرة نشرها في الجريدة؛ ابتهج لذلك ممتنَّاً. بعد مضي أسبوع نُشرتْ القصيدة تحمل اسم صاحب المكتبة سلمان داود محمد في جريدة الجمهورية وكان الشاعر عبد الزهرة زكي مشرفاً على صفحتها الثقافية في ذلك الوقت. تكررت زيارة صديق الغجري إلى مكتبة الإنسان؛ بل كان يمضي ظهيرة كل يوم هناك؛ فيما تركت قصيدة «عاهة إبليس» ردود فعل إيجابية لدى الوسط الثقافي؛ ولذا بات الكثير من الأدباء يزورون مكتبة الإنسان للتعرف على شاعر تلك القصيدة؛ ومنهم القاص اللامع عبد الستار ناصر الذي أصبح لا يفارق المكتبة؛ وحين وجد الشاعر سلمان داود محمد صديق الغجري مهموماً وحائراً بتجهيز أثاث عرسه؛ لم يقف مكتوف اليدين إذْ بادر لوضع رزمة نقود بيده قائلاً بغبطةٍ:
- أذهب واشتر لوازم عرسك.
وقبل مغادرة صديق الغجري؛ سألهُ سلمان:
- ما هذا القميص الرث الذي ترتديه؟
- لا أملك سواهُ.
- أنتَ عريس ولا يصح أن تراك عروسك بهذه الصورة البائسة.
وإذا بالشاعر سلمان يخلع قميصه القشيب ليكون أنبل وأجمل ذكرى على بدن صديق الغجري الذي تمكَّن من شراء غرفة زواج مستعملة؛ كان من أرشده على وجودها في سوق شلَّال صديقه الشاعر حسين الصعلوك والذي حرص على مرافقته حتى وصول غرفة الزواج إلى مدينته المقدَّسة حيث منزل أخته الكبرى التي أفرغت إحدى الحجرات لزواجه. لكنَّ صديق الغجري سرعان ما باع مكتبته بعد أسبوعين والتي تحتوي على آلاف الكتب وكان ثمنها يكفي لإيفاء الدين إلى صديقه سلمان داود محمد. أصبح زواج صديق الغجري وشيكاً من الفتاة البصرية لولا طلب والدها المفاجئ الذي أصرَّ على حضور وفد من الرجال لطلب يد ابنته، وهذا يعني تكاليف تكسر الرقبة لحمل هؤلاء الرجال من مدينته إلى البصرة؛ لم يكن يقوى عليها صديق الغجري؛ حتى شاءت المصادفة أنْ يعقد ملتقى السياب هناك وكان من ضمن المدعوين؛ فانتخى صديقه الشاعر جواد الحطَّاب لكي يتكفَّل بهذه المهمة والذي نجح من إقناع شيخ وقور كان يجلس في صالة فندق شيراتون البصرة من الذهاب معهم لخطوبة الفتاة البصرية. وهكذا انطلقت ثلاث سيارات أجرة من فندق الشيراتون محملة بالشعراء مع شيخ وقور إلى منزل الفتاة البصرية. بدى المشهد مهيباً لصديق الغجري وهم يجلسون بالصالة الكبيرة مع والد الفتاة البصرية وأقاربها. انبرى أحدهم يتكلم بشأن مهر الزواج فأجابهُ الحطَّاب بلغةٍ شاعريةٍ أفحمتهُ:
- ليكنْ نخيل البصرة مهراً لها.
هيمن سكونٌ جليلٌ على المكان؛ حتى تعالت زغاريد أم وأخت صديق الغجري بإشارة إلى موافقة أهل الفتاة البصرية. لم يبق أمامه سوى شراء ستائر جديدة إلى الغرفة ومقعد العروس بناء على رغبة أم العروس؛ هرع صديق الغجري إلى الشاعر كمال العبدلي وطرح عليه المأزق الذي يحاصرهُ؛ فأخذ بيده إلى منزل فخم يعود إلى أحد اقربائه، كان خادماً مصرياً قد استقبلهما عند الباب ليجلسا في حديقة الدار الغنَّاء؛ وإذا برجل يرتدي دشداشة من الحرير يقبل نحوهما؛ رحَّب بهما بحرارة وبدون مقدمات قال العبدلي:
- يا ابن العم؛ صديقي مقبل على الزواج.
فهم الرجل الوقور مبتغى الكلام؛ نهض وغاب لدقائق ثم عاد ليضع بيد صديق الغجري رزمة من النقود؛ قال بنبرة حنون:
- هذه هدية زواجك.
بتلك النقود تمكَّن من شراء ستائر الغرفة، أما مقعد زينة العروس، فقد أهداهُ العبدلي مقعد زينة زوجته بموقف نبيل حمل الإيثار ونكران الذات؛ فيما كانت عبرات الفرح تهطل مدراراً من عيني صديق الغجري الذي كان ينتظر يوم زفافه على أحرِّ من الشعر.
يتبع..