أزمة ثقافة أم أزمة أخلاق.. أيهما يحكم الآخر؟
عصام البرّام
تعد الثقافة والأخلاق، بانهما وجهان لعملة واحدة، يتأثر كل منهما بالآخر ويؤثر فيه. فالثقافة تساهم في تشكيل الأخلاق، والعكس صحيح. لذا، فإن أزمة الثقافة غالبًا ما تكون مصحوبة بأزمة أخلاقية، إذ إن تأثير الأخلاق على الثقافة واسع وكبير، فالأخلاق القوية يمكن أن تحمي الثقافة وتضمن استمراريتها، ففي المجتمعات التي تتمسك بقيم أخلاقية راسخة، نجد أن الثقافة تظل حية وقوية.
وفي زمن العولمة المتسارع والتغيرات الاجتماعية العميقة، يتساءل الكثيرون حول طبيعة الأزمات التي تواجه البشرية، هل نحن أمام أزمة ثقافة تعبر عن تراجع القيم والمعايير الثقافية، أم أن الأزمة الأساسية هي أزمة أخلاق تعكس إنحلال القيم الإنسانية والمبادئ الأخلاقية؟
ففي العصر الحديث، تزايدت التحديات التي تواجه المجتمعات بشكل كبير، حيث أصبحت الأسئلة حول أصل هذه التحديات أكثر إلحاحًا، هل نعيش أزمة ثقافة أم أزمة أخلاق؟ وهل هناك علاقة بين هذين المفهومين؟ سنحاول استكشاف هذه الأسئلة والغوص في عمق التغيرات الثقافية والأخلاقية التي تسيطرعلى العالم اليوم.
مفهوم الثقافة والأخلاق
تعرف الثقافة، هي مجموعة القيم والعادات والمعتقدات والفنون والمعارف التي تتناقلها الأجيال، والتي تشكل هوية الأفراد والجماعات، وتلعب الثقافة دوراً محورياً في تشكيل وعي الأفراد وطريقة تفكيرهم وسلوكهم في المجتمع، ففي العقود الأخيرة، شهد العالم تحولات ثقافية جذرية بفعل العولمة والتكنولوجيا، هذه التغيرات أثرت على القيم التقليدية وأدت إلى ظهور مفاهيم جديدة تتناقض أحيانًا مع التراث الثقافي.
فيما تعرّف الأخلاق، هي مجموعة المبادئ والمعايير التي تحكم سلوك الأفراد وتحدد ما هو صحيح وما هو خاطئ، فالأخلاق تمثل الضمير الجماعي الذي يرشد الأفراد نحو التصرف بطريقة مسؤولة وإنسانية.
في حين تتجلى الأزمة الثقافية في عدة مظاهر، منها فقدان الهوية، التي يعاني الكثير من الأفراد من أزمة هوية، نتيجة لتداخل الثقافات والعولمة، مما يؤدي إلى ضعف الانتماء الثقافي داخل المجتمع الواحد، وتجد تغير في شخصية الأفراد بالانتماء الى ثقافات جديدة.
مما يؤدي ذلك الى الاستلاب الثقافي، حيث تُبنى ثقافات غريبة وتتجاهل الثقافة المحلية والأرث الحضاري وتراث الأمة، مما يؤدي إلى تآكل الهوية الثقافية للمجتمع الواحد. مما سيسمح الى ظهورالسطحية، أي انتشار الثقافة السطحية والمعرفة السطحية بدلاً من الثقافة العميقة والمعرفة الجادة.
كما تقف وراء الأزمة الثقافية أسباب عدة، فالعولمة لعبت دورًا كبيرًا في نشر القيم والثقافات الغربية، مما أدى إلى تآكل الهوية الثقافية في بعض المجتمعات الشرقية تحديداً أكثر، وأصبحت القيم المحلية مهددة بالانقراض أمام غزو القيم العالمية الجديدة، مما أثار تساؤلات حول مصير التراث الثقافي، أو الثقافات المحلية، وبالتالي يؤدي الى فقدان الهوية الوطنية شيئاً فشيئا.
ولاشك فأن التكنولوجيا أثرت هي الاخرى وسيطرة وسائل الإعلام الحديثة والشبكات الاجتماعية على تشكيل وعي الأفراد ونشر ثقافات دخيلة، أضافة الى ضعف المناهج التعليمية التي لا تركز على تعزيز الهوية الثقافية والقيم العميقة ومراقبة تردي حالة المجتمع والأخذ بدراستها. فتكنولوجيا المعلومات والانترنت فتحت أبوابًا جديدة للتواصل والتفاعل بين الثقافات، على الرغم ما فيها من جانب إيجابي، ومع ذلك، فإن هذا الانفتاح الثقافي جاء بثمن، حيث أدى إلى تداخل القيم والثقافات بشكل قد يُفقد المجتمعات توازنها الثقافي دون تحصين قيمها المحلية، أضف لذلك تزايد التركيز على القيم المادية والاستهلاكية، أدى هو الآخر إلى تراجع القيم الأخلاقية، وأصبح النجاح يُقاس بالمال والمكانة الاجتماعية بدلاً من القيم الإنسانية والأخلاقية.
في حين نجد الأزمة الأخلاقية تتجلى في عدة مظاهر، منها إنحلال القيم مثل الأمانة والعدالة التي كان توسم المجتمعات، مما أدي الى تراجع القيم الإنسانية والأخلاقية، وانتشار الفساد وتزايد معدلاته في المجتمعات، سواء في القطاعين العام أو الخاص، ثم يقود الى تدهور العلاقات الاجتماعية وانتشار الأنانية والفردية داخل المجتمع الواحد.
إن أهم أسباب الازمة الاخلاقية، هو ضعف التربية الأسرية اولاً والمدرسية ثانياً في غرس القيم الأخلاقية، أضافة الى تراجع دور المؤسسات الدينية والثقافية والمؤسسات الاجتماعية والإعلام، في تعزيز الأخلاق وزرع روح الاحترام والمحبة بين أفراد الاسرة والمجتمع الواحد. ومما لاشك فيه، فأن تأثير الاقتصاد (النيوليبرالي) الذي يركز على الربح والفردية وقهر الآخرعلى حساب القيم الإنسانية، يشكل عاملاً أساسياً آخر.
العلاقة بين الأزمة الثقافية والأخلاقية
تتداخل الأزمة الثقافية مع الأزمة الأخلاقية بشكل كبير، فالثقافة هي الوعاء الذي يتضمن القيم الأخلاقية، وعندما تتراجع الثقافة، تتراجع معها القيم الأخلاقية. كذلك، فإن تدهور الأخلاق يساهم في إضعاف الثقافة، حيث تتلاشى القيم التي تعزز الهوية الثقافية والتي تنظم العلاقات الاجتماعية.
ولكي نسعى جاهدين لوضع الحلول المقترحة، عسى أن تنال نصيباً في الأخذ بالمجتمع نحو الإصلاح ومواجهة ما يعصف به من تحديات داخلية وخارجية، ينبغي الاهتمام بالأسرة، فهي المؤسسة الأولى التي يتعلم فيها الفرد القيم الثقافية والأخلاقية، وإن تعزيز دور الأسرة وتوفير الدعم اللازم لها يمكن أن يساعدها في التصدي للأزمات التي تحيط بها.
كما ينبغي تعزيزالتعليم والتركيزعلى تطوير مناهج تعليمية تعزز الهوية الثقافية والقيم الأخلاقية، وتربية جيل واعٍ قادرعلى مواجهة تحديات العصر. فالتعليم يلعب دورًا محوريًا في غرس القيم الثقافية والأخلاقية، أضافة الى تعزيز المناهج التعليمية لتشمل موضوعات تركز على الثقافة والأخلاق.
كما إن الإعلام يأخذ دوره الحقيقي والفعال، فعلى وسائل الإعلام تحمّل مسؤوليتها في نشر ثقافة عميقة وأخلاقية، والابتعاد عن السطحية والإثارة، والكف عن كل ما يثير شرائح المجتمع، بل السعي الى الشفافية والارتقاء الى روح المواطنة من أجل دولة الجميع.
فضلاً عن تعزيز دور المؤسسات الثقافية، كالمتاحف والمكتبات والمراكز الثقافية، حيث تلعب دورًا كبيرًا في الحفاظ على التراث الثقافي وتعزيزه، إذ إن دعم هذه المؤسسات يمكن أن يساهم في مواجهة أزمة القيم الاخلاقية والثقافية، أضافة الى دعم مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الدينية والتربوية والجامعات، وتقديم الدعم اللازم لها مع مراقبتها وتوجيهها، للقيام بدورها في تعزيز القيم والأخلاق ووحدة المجتمع.
إن الأزمات الثقافية والأخلاقية التي نواجهها اليوم هي نتاج تداخل عوامل متعددة، ومن الضروري العمل على تعزيز وتظافر الجهود، كركائز أساسية لبناء مجتمع مستدام ومتوازن، يتطلب ذلك جهودًا متكاملة من كافة مؤسسات الدولة والمجتمع، بدءًا من الأسرة مرورًا بالمؤسسات التعليمية والثقافية وصولاً إلى السياسات الحكومية التي ترسم ستراتيجيتها، وبهذا يمكننا بناء عالم أفضل للأجيال القادمة، وبناء مجتمع يتسم بالوعي الثقافي والأخلاقي.
وفي نهاية المطاف، لا يمكن الفصل بين الثقافة والأخلاق، فكل منهما يكمل الآخر ويعزز من قوة المجتمع واستقراره.