من تصريحات فائق زيدان إلى أزمة المكوّن.. العراق في قلب الشرق الأوسط الجديد
مجاشع التميمي
تشير التطورات السياسية الأخيرة في بغداد إلى أن القوى السياسية، وبالأخص قوى الإطار التنسيقي، باتت تميل بوضوح إلى تمرير اختيار رئيس الوزراء ضمن المدد الدستورية، بعد الاجتماع الأخير الذي عُقد في منزل السيد محمد شياع السوداني، وما سبقه من تسوية أولية بينه وبين السيد نوري المالكي. هذا التقارب لا يمكن قراءته بوصفه تفاهمًا شخصيًا أو ظرفيًا، بل باعتباره انعكاسًا لتحولات أعمق في البيئة السياسية الداخلية والمعادلات الإقليمية، دفعت مختلف الأطراف إلى تغليب منطق التهدئة والاستقرار على منطق الصدام والمغامرة.في هذا السياق، برزت تصريحات رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي فائق زيدان خلال زيارته إلى دهوك بوصفها مؤشرًا بالغ الدلالة. إذ لم يتحدث زيدان عن الاستقرار باعتباره حاجة داخلية عراقية فحسب، بل قدّمه كضرورة إقليمية، رابطًا بشكل مباشر بين استقرار العراق وملامح ما أسماه “الشرق الأوسط الجديد”. هذا الطرح يعكس إدراكًا مؤسساتيًا متقدمًا بأن المنطقة تتجه نحو مرحلة مختلفة، تُقدَّم فيها الشراكات الاقتصادية والمصالح المتبادلة على الصراعات الأيديولوجية، وأن الدول القادرة على بناء أنظمة دستورية رصينة وتداول سلمي للسلطة ستكون الأكثر قدرة على الصمود في وجه التحولات العاصفة.
ازمة مركبة
وتأتي تصريحات زيدان في لحظة إقليمية شديدة الحساسية، أعقبت أحداث السابع من تشرين الأول 2023، وما تبعها من تغيرات عميقة في موازين القوى الإقليمية، ولا سيما في الساحة السورية، وتراجع أدوار قوى كانت تمثل ركائز أساسية في معادلة ما عُرف بـ“محور المقاومة”. هذه التحولات وضعت القوى الشيعية في المنطقة أمام أزمة مركبة، لا تقتصر على البعد العسكري، بل تمتد إلى سؤال الوجود السياسي والاجتماعي، وحجم الكلفة التي تحملتها المجتمعات الشيعية خلال العقدين الماضيين، دون أن تقابلها مكاسب استراتيجية مستدامة.في هذا الإطار، تبرز مرجعية النجف الأشرف، وعلى رأسها سماحة السيد علي السيستاني، برؤية مختلفة تقوم على أن مصلحة الشيعة في العراق والمنطقة لا تتحقق عبر عسكرة الصراعات أو الانخراط في حروب بالوكالة، بل من خلال بناء دول قوية ذات مؤسسات دستورية فاعلة، وأنظمة سياسية مستقرة، قادرة على حماية الحقوق وضبط السلاح ومنع الانزلاق إلى صراعات استنزاف مفتوحة. هذه الرؤية باتت أكثر حضورًا في الخطاب السياسي الشيعي، مع إدراك متزايد بأن منطق المحاور المسلحة أوقع الشيعة في خسائر استراتيجية كبيرة، سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا.وانعكاسًا لهذه التحولات، برزت في الآونة الأخيرة مواقف لافتة من داخل قوى وفصائل كانت تُحسب تقليديًا على معسكر السلاح خارج إطار الدولة. إذ أعلن الأمين العام لحركة عصائب أهل الحق، الشيخ قيس الخزعلي، دعمه الصريح لمبدأ حصر السلاح بيد الدولة، في موقف يحمل دلالات سياسية تتجاوز مجرد التصريح الإعلامي. وتزامن ذلك مع دعوة مماثلة أطلقها الأمين العام لفصيل أنصار الله الأوفياء، حيدر الغراوي، شدد فيها على ضرورة أن تكون الدولة هي الجهة الوحيدة المخولة بحمل السلاح وتنظيم استخدامه.هذه المواقف لا يمكن فصلها عن سياق الضغوط الإقليمية والدولية المتزايدة، ولا سيما التهديدات الأمريكية المتصاعدة تجاه العراق، التي أعادت إلى الواجهة ملف السلاح خارج إطار الدولة بوصفه أحد المفاتيح الأساسية للاستقرار أو التصعيد. وبذلك، يمكن قراءة هذه التصريحات كجزء من عملية تكيّف سياسي قسري مع ملامح “الشرق الأوسط الجديد”، حيث يُعاد تعريف أدوار الفاعلين المحليين وفق منطق الدولة والسيادة، لا وفق منطق الجماعات المسلحة أو الأدوار الوظيفية العابرة للمؤسسات.وفي الاتجاه ذاته، دعا رئيس تيار الحكمة الوطني، السيد عمار الحكيم، إلى ضرورة تجنيب العراق أي توتر أمني أو انزلاق نحو مواجهات داخلية أو إقليمية، مؤكدًا أن البلاد لم تعد تحتمل كلفة صراعات إضافية في ظل وضع اقتصادي هش وبيئة إقليمية شديدة الاضطراب. وتنسجم هذه الدعوة مع المزاج العام الذي بات يميل إلى الحفاظ على الاستقرار بوصفه خيارًا وجوديًا، لا مجرد تكتيك سياسي مؤقت.الإطار التنسيقي، في ضوء كل ما سبق، يعي أن استمرار التوتر الداخلي في العراق لا يخدم شيعة العراق ولا شيعة المنطقة، خصوصًا مع تصاعد احتمالات المواجهة الإقليمية واتساع دوائر الصراع. لذلك، يبدو خيار تشكيل حكومة مستقرة، واستمرار الهدوء السياسي، والتعاطي البراغماتي مع الاستحقاقات المقبلة، خيارًا اضطراريًا لا ترفًا سياسيًا. ومع عودة اسم محمد شياع السوداني بقوة كمرشح محتمل لولاية ثانية، تبقى الساحة العراقية مفتوحة على مفاجآت اللحظات الأخيرة، في منطقة اعتادت أن تعيد خلط أوراقها كلما بدا أن المسارات قد استقرت.