الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الشاعر‭ ‬والبلاد‭ (‬26‭)

بواسطة azzaman

الشاعر‭ ‬والبلاد‭ (‬26‭)

حسن‭ ‬النواب

 

يبدو‭ ‬أنَّ‭ ‬الشاعر‭ ‬جواد‭ ‬الحطاب‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬إقناع‭ ‬رجل‭ ‬الأمن‭ ‬حول‭ ‬التقرير‭ ‬الذي‭ ‬وصلهم‭ ‬عن‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬كان‭ ‬مبالغاً‭ ‬فيه؛‭ ‬فهو‭ ‬شاعر‭ ‬صعلوك‭ ‬لا‭ ‬يستحق‭ ‬عناء‭ ‬الأجهزة‭ ‬الأمنية‭ ‬وضياع‭ ‬وقتهم‭ ‬بمراقبة‭ ‬تحركاته‭ ‬العبثية؛‭ ‬وهكذا‭ ‬تجاهل‭ ‬ضابط‭ ‬الأمن‭ ‬ذلك‭ ‬التقرير‭ ‬الخبيث‭ ‬عنهُ؛‭ ‬بالوقت‭ ‬الذي‭ ‬نشر‭ ‬الشاعر‭ ‬علاوي‭ ‬كاظم‭ ‬كشيش‭ ‬قصيدة‭ ‬شجب‭ ‬غير‭ ‬مباشرة‭ ‬حين‭ ‬سمع‭ ‬بما‭ ‬تعرَّض‭ ‬له‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬من‭ ‬تعسُّفٍ‭ ‬في‭ ‬اتحاد‭ ‬الأدباء‭ ‬ومن‭ ‬تحقيق‭ ‬أمني؛‭ ‬نشرتْ‭ ‬القصيدة‭ ‬ثقافية‭ ‬الجمهورية‭ ‬وأهداها‭ ‬إلى‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬وكانت‭ ‬بعنوان‭ ‬ليلة‭ ‬لوركا‭. ‬كان‭ ‬موقفاً‭ ‬شجاعاً‭ ‬من‭ ‬كشيش‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬الحرج؛‭ ‬ربما‭ ‬أراد‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬القصيدة‭ ‬التكفير‭ ‬عن‭ ‬الذنب‭ ‬الذي‭ ‬اقترفهُ؛‭ ‬حين‭ ‬حرَّض‭ ‬الأدباء‭ ‬الشباب‭ ‬بوشايات‭ ‬تافهة‭ ‬للإطاحة‭ ‬بصديق‭ ‬الغجري‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬رئيس‭ ‬منتدى‭ ‬الأدباء‭ ‬الشباب‭ ‬في‭ ‬كربلاء؛‭ ‬لكنَّ‭ ‬الغريب‭ ‬أنَّ‭ ‬قصيدة‭ ‬ليلة‭ ‬لوركا‭ ‬تناسى‭ ‬أمرها‭ ‬كشيش؛‭ ‬وعمد‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬نشرها‭ ‬في‭ ‬مجاميعه‭ ‬الشعرية‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬لسبب‭ ‬مُبهم‭. ‬بعد‭ ‬تلاشي‭ ‬خطورة‭ ‬ذلك‭ ‬التقرير‭ ‬الأمني‭ ‬تلطفَّت‭ ‬الأجواء‭ ‬قليلاً‭ ‬أمام‭ ‬ناظريه،‭ ‬إذْ‭ ‬تلقَّى‭ ‬دعوة‭ ‬للمشاركة‭ ‬في‭ ‬مهرجان‭ ‬‮«‬الشعر‭ ‬العراقي‭ ‬الآن‮»‬‭ ‬والذي‭ ‬أقيم‭ ‬في‭ ‬فندق‭ ‬المنصور‭. ‬كانت‭ ‬مبادرة‭ ‬غير‭ ‬متوقعة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬اتحاد‭ ‬الأدباء‭ ‬لطي‭ ‬صفحة‭ ‬الماضي‭ ‬ونسيان‭ ‬المشاجرة‭ ‬التي‭ ‬حدثت‭ ‬بين‭ ‬رعد‭ ‬بندر‭ ‬وصديق‭ ‬الغجري‭.  ‬كان‭ ‬المفترض‭ ‬قراءة‭ ‬قصيدة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المهرجان؛‭ ‬لكن‭ ‬إدارة‭ ‬المهرجان‭ ‬فاجأتهُ‭ ‬قبل‭ ‬ساعة‭ ‬من‭ ‬موعد‭ ‬الجلسة‭ ‬بضرورة‭ ‬قراءة‭ ‬شهادة‭ ‬شعرية‭ ‬عن‭ ‬شعراء‭ ‬الثمانينيات؛‭ ‬أبلغهُ‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الشاعر‭ ‬هادي‭ ‬ياسين‭ ‬علي‭ ‬وحثَّهُ‭ ‬على‭ ‬كتابتها‭ ‬لعدم‭ ‬وجود‭ ‬شاعر‭ ‬ثمانيني‭ ‬قدَّم‭ ‬شهادة‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭. ‬صعد‭ ‬إلى‭ ‬غرفته‭ ‬ليجد‭ ‬صديقه‭ ‬الشاعر‭ ‬الغجري‭ ‬نصيف‭ ‬الناصري‭ ‬يجلس‭ ‬على‭ ‬كرسي‭ ‬في‭ ‬شرفة‭ ‬الغرفة‭ ‬يحتسي‭ ‬خمراً‭ ‬رخيصاً‭ ‬ويصغي‭ ‬لأغنية‭ ‬ريفية‭ ‬قادمة‭ ‬من‭ ‬شرفة‭ ‬مجاورة،‭ ‬أخبره‭ ‬بالمهمة‭ ‬التي‭ ‬جاء‭ ‬للغرفة‭ ‬من‭ ‬أجلها؛‭ ‬قال‭ ‬الغجري‭ ‬باستغراب‭: ‬

‭- ‬يطلبون‭ ‬منكَ‭ ‬كتابة‭ ‬شهادة‭ ‬شعرية‭ ‬عن‭ ‬جيل‭ ‬شعري‭ ‬خطر‭ ‬بظرف‭ ‬نصف‭ ‬ساعة؛‭ ‬كأنَّهم‭ ‬يريدونَ‭ ‬إعدامكَ‭ ‬بطلبهم‭ ‬هذا‭.‬

وأردف‭ ‬متهكماً‭ ‬وهو‭ ‬يطلق‭ ‬ضحكة‭ ‬احتجاج‭:‬

‭- ‬ما‭ ‬هذا‭ ‬الضراط؟

كرع‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬كأساً‭ ‬ثقيلة‭ ‬لتحفيز‭ ‬جنونه‭ ‬على‭ ‬التدوين؛‭ ‬وفرقع‭ ‬أصابعه‭ ‬ليكتب‭ ‬تلك‭ ‬الشهادة‭ ‬في‭ ‬غضون‭ ‬دقائق‭ ‬على‭ ‬ظهر‭ ‬أوراق‭ ‬مخصصة‭ ‬لبيانات‭ ‬عن‭ ‬الملابس‭ ‬التي‭ ‬ترسل‭ ‬إلى‭ ‬الغسل‭ ‬والكوي،‭ ‬حين‭ ‬فرغ‭ ‬منها‭ ‬وضع‭ ‬عنوانها‭ ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬‮«‬الشعر‭ ‬أول‭ ‬الشهداء‮»‬‭. ‬هبط‭ ‬إلى‭ ‬قاعة‭ ‬الجلسة‭ ‬شبه‭ ‬ثمل‭ ‬من‭ ‬كؤوس‭ ‬الخمر‭ ‬المبتذل‭ ‬التي‭ ‬كرعها،‭ ‬ليجد‭ ‬الناقد‭ ‬محمد‭ ‬رضا‭ ‬مبارك‭ ‬يقرأ‭ ‬بلائحة‭ ‬دفاعه‭ ‬عن‭ ‬الشاعر‭ ‬محمد‭ ‬تركي‭ ‬النصَّار‭ ‬عن‭ ‬مقال‭ ‬نشرته‭ ‬جريدة‭ ‬الجمهورية‭ ‬بعنوان‭ ‬الجنحة‭ ‬الشعرية،‭ ‬وقد‭ ‬أشار‭ ‬الشاعر‭ ‬عادل‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬سطو‭ ‬مفضوح‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬النصَّار‭ ‬على‭ ‬قصائد‭ ‬الشاعر‭ ‬سان‭ ‬جون‭ ‬بيرس؛‭ ‬لكنَّ‭ ‬الناقد‭ ‬محمد‭ ‬مبارك‭ ‬شدَّد‭ ‬في‭ ‬معرض‭ ‬دفاعه‭ ‬أنَّ‭ ‬اتهامات‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬اكتنفها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬التجني‭ ‬على‭ ‬النصَّار‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يجلس‭ ‬بجوار‭ ‬الناقد‭ ‬واثقاً‭ ‬من‭ ‬نفسهِ‭ ‬وقرأ‭ ‬ذات‭ ‬النصوص‭ ‬التي‭ ‬اتهم‭ ‬بها‭  ‬وكانت‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬بعناوين‭ ‬مشابهة‭ ‬لنصوص‭ ‬بيرس‭. ‬حان‭ ‬الدور‭ ‬لصديق‭ ‬الغجري‭ ‬الذي‭ ‬قرأ‭ ‬شهادته‭ ‬الشعرية‭ ‬بحماس‭ ‬والتي‭ ‬جعلت‭ ‬الحضور‭ ‬في‭ ‬حيص‭ ‬وبيص‭ ‬حين‭ ‬قال‭: ‬

‭- ‬اعترفُ‭ ‬لكم‭ ‬أنَّ‭ ‬الشعر‭ ‬استشهد‭ ‬بعد‭ ‬مقتل‭ ‬المتنبي‭.‬

‭ ‬ثم‭ ‬أردف‭ ‬بنبرةٍ‭ ‬ساخطة‭: ‬

‭- ‬ليس‭ ‬سوى‭ ‬نصوصنا‭ ‬النافرة‭ ‬من‭ ‬تسكت‭ ‬احتجاجات‭ ‬خالد‭ ‬علي‭ ‬مصطفى‭ ‬على‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭. ‬

وانتهت‭ ‬الجلسة‭ ‬بسلام‭. ‬وبعيداً‭ ‬عن‭ ‬مهرجان‭ ‬الشعر‭ ‬هذا،‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬محاولات‭ ‬حثيثة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬عائلة‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬للاقتران‭ ‬بفتاة‭ ‬بصرية‭ ‬جاء‭ ‬بها‭ ‬القصف‭ ‬مع‭ ‬عائلتها‭ ‬إلى‭ ‬مدينته‭ ‬إبَّان‭ ‬الحرب‭ ‬العراقية‭ ‬الإيرانية،‭ ‬سكنت‭ ‬تلك‭ ‬العائلة‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬اخته‭ ‬الكبرى‭ ‬وفي‭ ‬إحدى‭ ‬إجازاته‭ ‬من‭ ‬جبهة‭ ‬الحرب؛‭ ‬وجد‭ ‬تلك‭ ‬الفتاة‭ ‬في‭ ‬بيتهم‭ ‬فشغف‭ ‬بحبها‭ ‬وجنَّ‭ ‬بها؛‭ ‬وأخذ‭ ‬ينشر‭ ‬القصائد‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬عن‭ ‬الفتاة‭ ‬البصرية‭ ‬لاستمالتها‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬جدوى،‭ ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬رافضة‭ ‬فكرة‭ ‬الاقتران‭ ‬بجندي‭ ‬حياته‭ ‬مهددة‭ ‬بالزوال‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحرب‭. ‬لتعود‭ ‬مع‭ ‬عائلتها‭ ‬إلى‭ ‬البصرة‭ ‬بعد‭ ‬استقرار‭ ‬الوضع‭ ‬هناك‭. ‬انتهت‭ ‬الحرب‭ ‬مع‭ ‬إيران‭ ‬وسرَّح‭ ‬من‭ ‬الجيش؛‭ ‬ما‭ ‬لبث‭ ‬سوى‭ ‬شهرين‭ ‬حتى‭ ‬استدعي‭ ‬إلى‭ ‬العسكرية‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬بعد‭ ‬غزو‭ ‬الكويت‭ ‬الأحمق‭ ‬والهمجي؛‭ ‬لكنَّ‭ ‬ولعه‭ ‬بتلك‭ ‬الفتاة‭ ‬البصرية‭ ‬اهتاج‭ ‬في‭ ‬عروق‭ ‬دمه‭ ‬وغدى‭ ‬غابة‭ ‬من‭ ‬نيران‭ ‬مضطرمة‭. ‬بعد‭ ‬مضي‭ ‬سبع‭ ‬سنوات‭ ‬كان‭ ‬مازال‭ ‬يتلظَّى‭ ‬بعشقها؛‭ ‬شاءت‭ ‬المصادفة‭ ‬أنْ‭ ‬تلتقي‭ ‬أمُّهُ‭ ‬مع‭ ‬والدة‭ ‬تلك‭ ‬الفتاة‭ ‬البصرية‭ ‬في‭ ‬مرقد‭ ‬الإمام‭ ‬علي‭ ‬عليه‭ ‬السلام؛‭ ‬وحين‭ ‬عرفت‭ ‬أن‭ ‬الفتاة‭ ‬البصرية‭ ‬لم‭ ‬تقترن‭ ‬برجل‭ ‬حتى‭ ‬الآن؛‭ ‬أخبرت‭ ‬ولدها‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬بذلك؛‭ ‬فأقام‭ ‬ثورة‭ ‬عاصفة‭ ‬داخل‭ ‬منزلهم‭ ‬بضرورة‭ ‬الزواج‭ ‬منها‭ ‬قبل‭ ‬حضوره‭ ‬لهذا‭ ‬المهرجان؛‭ ‬ها‭ ‬هو‭ ‬يزوَّلَ‭ ‬قرص‭ ‬الهاتف‭ ‬من‭ ‬غرفته‭ ‬في‭ ‬فندق‭ ‬المنصور‭ ‬ليعرف‭ ‬آخر‭ ‬الأخبار‭ ‬من‭ ‬أمه‭ ‬التي‭ ‬ذهبت‭ ‬مع‭ ‬اخته‭ ‬الكبرى‭ ‬لخطبة‭ ‬الفتاة‭ ‬في‭ ‬البصرة؛‭ ‬سمع‭ ‬أخته‭ ‬الكبرى‭ ‬تقول‭ ‬مستبشرة‭: ‬

‭- ‬مبارك‭ ‬لك؛‭ ‬وافقتْ‭ ‬أخيراً‭.                        ‬يتبع‭…‬

 


مشاهدات 131
الكاتب حسن‭ ‬النواب
أضيف 2024/08/19 - 3:58 PM
آخر تحديث 2024/08/23 - 12:35 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 16 الشهر 9412 الكلي 9984956
الوقت الآن
الجمعة 2024/8/23 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير