حسن النواب
يبدو أنَّ الشاعر جواد الحطاب نجح في إقناع رجل الأمن حول التقرير الذي وصلهم عن صديق الغجري كان مبالغاً فيه؛ فهو شاعر صعلوك لا يستحق عناء الأجهزة الأمنية وضياع وقتهم بمراقبة تحركاته العبثية؛ وهكذا تجاهل ضابط الأمن ذلك التقرير الخبيث عنهُ؛ بالوقت الذي نشر الشاعر علاوي كاظم كشيش قصيدة شجب غير مباشرة حين سمع بما تعرَّض له صديق الغجري من تعسُّفٍ في اتحاد الأدباء ومن تحقيق أمني؛ نشرتْ القصيدة ثقافية الجمهورية وأهداها إلى صديق الغجري وكانت بعنوان ليلة لوركا. كان موقفاً شجاعاً من كشيش في ذلك الوقت الحرج؛ ربما أراد من خلال القصيدة التكفير عن الذنب الذي اقترفهُ؛ حين حرَّض الأدباء الشباب بوشايات تافهة للإطاحة بصديق الغجري عندما كان رئيس منتدى الأدباء الشباب في كربلاء؛ لكنَّ الغريب أنَّ قصيدة ليلة لوركا تناسى أمرها كشيش؛ وعمد على عدم نشرها في مجاميعه الشعرية فيما بعد لسبب مُبهم. بعد تلاشي خطورة ذلك التقرير الأمني تلطفَّت الأجواء قليلاً أمام ناظريه، إذْ تلقَّى دعوة للمشاركة في مهرجان «الشعر العراقي الآن» والذي أقيم في فندق المنصور. كانت مبادرة غير متوقعة من قبل اتحاد الأدباء لطي صفحة الماضي ونسيان المشاجرة التي حدثت بين رعد بندر وصديق الغجري. كان المفترض قراءة قصيدة في ذلك المهرجان؛ لكن إدارة المهرجان فاجأتهُ قبل ساعة من موعد الجلسة بضرورة قراءة شهادة شعرية عن شعراء الثمانينيات؛ أبلغهُ في ذلك الشاعر هادي ياسين علي وحثَّهُ على كتابتها لعدم وجود شاعر ثمانيني قدَّم شهادة عن هذا الجيل. صعد إلى غرفته ليجد صديقه الشاعر الغجري نصيف الناصري يجلس على كرسي في شرفة الغرفة يحتسي خمراً رخيصاً ويصغي لأغنية ريفية قادمة من شرفة مجاورة، أخبره بالمهمة التي جاء للغرفة من أجلها؛ قال الغجري باستغراب:
- يطلبون منكَ كتابة شهادة شعرية عن جيل شعري خطر بظرف نصف ساعة؛ كأنَّهم يريدونَ إعدامكَ بطلبهم هذا.
وأردف متهكماً وهو يطلق ضحكة احتجاج:
- ما هذا الضراط؟
كرع صديق الغجري كأساً ثقيلة لتحفيز جنونه على التدوين؛ وفرقع أصابعه ليكتب تلك الشهادة في غضون دقائق على ظهر أوراق مخصصة لبيانات عن الملابس التي ترسل إلى الغسل والكوي، حين فرغ منها وضع عنوانها والذي كان «الشعر أول الشهداء». هبط إلى قاعة الجلسة شبه ثمل من كؤوس الخمر المبتذل التي كرعها، ليجد الناقد محمد رضا مبارك يقرأ بلائحة دفاعه عن الشاعر محمد تركي النصَّار عن مقال نشرته جريدة الجمهورية بعنوان الجنحة الشعرية، وقد أشار الشاعر عادل عبد الله فيه إلى سطو مفضوح من قبل النصَّار على قصائد الشاعر سان جون بيرس؛ لكنَّ الناقد محمد مبارك شدَّد في معرض دفاعه أنَّ اتهامات عبد الله اكتنفها الكثير من التجني على النصَّار الذي كان يجلس بجوار الناقد واثقاً من نفسهِ وقرأ ذات النصوص التي اتهم بها وكانت في الواقع بعناوين مشابهة لنصوص بيرس. حان الدور لصديق الغجري الذي قرأ شهادته الشعرية بحماس والتي جعلت الحضور في حيص وبيص حين قال:
- اعترفُ لكم أنَّ الشعر استشهد بعد مقتل المتنبي.
ثم أردف بنبرةٍ ساخطة:
- ليس سوى نصوصنا النافرة من تسكت احتجاجات خالد علي مصطفى على قصيدة النثر.
وانتهت الجلسة بسلام. وبعيداً عن مهرجان الشعر هذا، كانت هناك محاولات حثيثة من قبل عائلة صديق الغجري للاقتران بفتاة بصرية جاء بها القصف مع عائلتها إلى مدينته إبَّان الحرب العراقية الإيرانية، سكنت تلك العائلة في بيت اخته الكبرى وفي إحدى إجازاته من جبهة الحرب؛ وجد تلك الفتاة في بيتهم فشغف بحبها وجنَّ بها؛ وأخذ ينشر القصائد في الصحف عن الفتاة البصرية لاستمالتها ولكن من دون جدوى، لقد كانت رافضة فكرة الاقتران بجندي حياته مهددة بالزوال في تلك الحرب. لتعود مع عائلتها إلى البصرة بعد استقرار الوضع هناك. انتهت الحرب مع إيران وسرَّح من الجيش؛ ما لبث سوى شهرين حتى استدعي إلى العسكرية من جديد بعد غزو الكويت الأحمق والهمجي؛ لكنَّ ولعه بتلك الفتاة البصرية اهتاج في عروق دمه وغدى غابة من نيران مضطرمة. بعد مضي سبع سنوات كان مازال يتلظَّى بعشقها؛ شاءت المصادفة أنْ تلتقي أمُّهُ مع والدة تلك الفتاة البصرية في مرقد الإمام علي عليه السلام؛ وحين عرفت أن الفتاة البصرية لم تقترن برجل حتى الآن؛ أخبرت ولدها صديق الغجري بذلك؛ فأقام ثورة عاصفة داخل منزلهم بضرورة الزواج منها قبل حضوره لهذا المهرجان؛ ها هو يزوَّلَ قرص الهاتف من غرفته في فندق المنصور ليعرف آخر الأخبار من أمه التي ذهبت مع اخته الكبرى لخطبة الفتاة في البصرة؛ سمع أخته الكبرى تقول مستبشرة:
- مبارك لك؛ وافقتْ أخيراً. يتبع…