حسن النواب
دخلَ صديق الغجري إلى حانة روافد دجلة؛ كانت مناضدها شبه خالية من الروَّاد، طلبَ على عجلٍ بما تبقَّى في جيبهِ من نقود زعافاً أبيض، كرع كأساً ثقيلةً وراح يقلِّب صفحات جريدة الثورة ليجد اسمهُ مع الفائزين في خبر نشرته عن انتخابات اتحاد الأدباء. ماهي إلاَّ نصف ساعة مضت حتى أطلَّ جان دمو وانضمَّ إلى مائدته؛ نفث دخان سيجارته ثم أطلق ضحكة لها مغزى وسأل:
- من فاز «بالريسز»؟
كلمة «الريسز» تعني سباق الخيول، أطلق ضحكة ثانية وصاح على النادل ليجلب بطحة من الزعاف. عندما حلَّ الغروب كانت المائدة مزدحمة بالأدباء الصعاليك والمهمشين، وتوالت الأنباء عن تزوير الانتخابات لمصلحة رعد بندر، حيث أنَّ خزعل الماجدي كان متقدِّما على منافسيّهِ بفرقٍ شاسعٍ حتى الساعة الأخيرة من فرز الأصوات؛ لكن المعادلة تغيَّرت فجأة بعد وصول أوامر أولمبية مشدَّدة بضرورة تغيير مجرى الانتخابات؛ وهكذا بدأ عباس الجنابي المشرف على إحصاء أصوات المقترعين من إضافة معظم الأصوات التي حصل عليها كزار حنتوش إلى رعد بندر ليتقدم على خزعل الماجدي خلال دقائق معدودة بلعبة مكشوفة أدركها جميع الأدباء الذين كانوا في قاعة المهندسين الزراعيين؛ لكن من يمتلك الشجاعة ويعترض على هذا التزوير؟ وصلت أنباء أخرى عن خروج الأدباء الفائزين من لقاء عدي بهبات مالية سخيَّة، وقد حرصوا على الكتمان الشديد حول تلك المكرمة الأولمبية، وظلَّ أمرها وسرها بينهم وقد اجتمعوا في اتحاد الأدباء بعد عودتهم من لقاء «الأستاذ» واختاروا وسام هاشم أميناً عاماً للاتحاد وجواد الحطَّاب نائباً له، فيما توَّزعت الشؤون المالية والداخلية والثقافية والعلاقات على باقي الفائزين. كان الوقت غروباً عندما ترك صديق الغجري حانة روافد دجلة لينقل خطواته اليائسة إلى نادي الأدباء وثورة الغضب تشتعل بدمه، في الحديقة اختار مائدةً تطلُّ على الرواق المؤدي إلى الباب الرئيس لبناية الاتحاد، رفع ساقيّه فوق المائدة معلناً بشكل صريح عن تذمّره واحتجاجه وطلب من النادل أنْ يجيء بالزعاف؛ لكنَّ النادل لم يستجب لهُ فتفاقم الغضب برأسه، لمح جواد الحطاب يرمقهُ بنظرةٍ مبهمةٍ؛ كانت خليطاً بين المحبة والازدراء، استنجدَ به حتى يدع النادل يلبي رغبته، وكان لهُ ما أراد إذْ وضع النادل فوق طاولته نصف زجاجة من العرق لكن بعد طول انتظار، سرعان ما أفرغها وطلب المزيد، وإذا بالنادل يريد ثمنها مقدَّماً، فتشَّ جيوبه ولم يجد أثراً حتى لربع دينار، فأخبر النادل:
- هات لي ربعاً على حساب الاتحاد.
- الأستاذ لا يريدك تشرب المزيد.
- أي أستاذ تقصد؟ أستاذ الأولمبية أم الاتحاد؟
- أستاذ رعد أصدر أمراً بمنع تقديم المشروب لك؛ والخروج من النادي فوراً.
ضحك صديق الغجري بطريقة استفزازية؛ كأنَّه يقول لخصومه تعالوا نتبارز؛ وصرخ بالنادل:
- إذا لم تأت لي بالزعاف على جناح السرعة؛ سأقلب النادي على رؤوس الجميع.
كانت كراسي الحديقة قد امتلأتْ بجلاسها من الأدباء بينما تلفَّعت السماء بحجاب أسود، وليس هناك من خمرٍ على مائدته، اقترب نادل آخر وطلب منه إنزال ساقيه من فوق المنضدة، اضطرمت نيران الاحتجاج بعيني صديق الغجري لتنطلق الشتائم من لسانه الذرب محتجَّاً على الظلم والتهميش؛ لم يتوقف عن الصراخ وهيجان الكلمات الحارقة تخرج تباعاً من فمه؛ فيما أطار لبَّ عقله رؤية حميد قاسم جالساً إلى طاولةٍ مع بعض الفائزين، كأنَّ الإقصاء لهما في اللجنة الأولمبية لا يعنيه. نهض مدمَّراً لتفريغ مثانته، وفي منتصف الرواق المؤدي إلى المرافق الصحية واجه رعد بندر؛ فوجئ بكف بندر تلطم وجهه، وحين حاول رد الصفعة وقف بعض الفائزين حاجزاً لحماية رئيسهم ثم سحبوه عنوةً إلى غرفة في اتحاد الأدباء فيما كان صراخه يصل إلى ساحة الاندلس؛ والأكف الغريبة والصديقة تنهال على رأسه بالصفعات من كل حدب وصوب. جلس على مقعد مقابل بندر الذي احتل مكانه خلف طاولته الأنيقة؛ سمع خالد مطلك وهو أقرب الأصدقاء إلى نفسه يطلب من الندل الاتصال بالشرطة؛ فنظر نحوه معاتباً فيما نفث مطلك دخان سيجارته بوجه صديق الغجري كمحقق محترف. انهالت كلمات التهديد والوعيد من رئيسهم ثم انحنى لنزع حذائه؛ فخلع صديق الغجري حذاءه أيضاً ولوَّح به أمام وجه رعد بندر وقال بشراسةٍ:
- اسمع يا رعد؛ إذا ضربتني؛ أضرب مرتين بحذائي على رأسك.
هنا تدخَّل الروائي جاسم الرصيف قائلاً بحزم:
- دعوهُ رجاءً؛ أنا اتكفَّل بأمره.
لاذَ الجميع بصمت مطبق؛ فيما أخذ جاسم الرصيف بصديق الغجري ليركبه على عجلٍ في سيارته السوبر الحمراء وانطلق إلى مرأب العلاوي؛ وهناك وضع بيده خمسة دنانير وزجاجة عرق؛ وأخبرهُ ناصحاً:
- إيَّاكَ العودة إلى بغداد؛ إيَّاك؛ سيدمرونك إذا عُدت؛ أفهمتْ؟
صعد صديق الغجري حافلةً تصل به إلى مدينته المقدَّسة وخلايا جسده تستغيثُ من الألم.