الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الشاعر‭ ‬والبلاد‭ ‬‭(‬22‭)

بواسطة azzaman

الشاعر‭ ‬والبلاد‭ ‬‭(‬22‭)

حسن‭ ‬النواب

 

دخلَ‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬إلى‭ ‬حانة‭ ‬روافد‭ ‬دجلة؛‭ ‬كانت‭ ‬مناضدها‭ ‬شبه‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬الروَّاد،‭ ‬طلبَ‭ ‬على‭ ‬عجلٍ‭ ‬بما‭ ‬تبقَّى‭ ‬في‭ ‬جيبهِ‭ ‬من‭ ‬نقود‭ ‬زعافاً‭ ‬أبيض،‭ ‬كرع‭ ‬كأساً‭ ‬ثقيلةً‭ ‬وراح‭ ‬يقلِّب‭ ‬صفحات‭ ‬جريدة‭ ‬الثورة‭ ‬ليجد‭ ‬اسمهُ‭ ‬مع‭ ‬الفائزين‭ ‬في‭ ‬خبر‭ ‬نشرته‭ ‬عن‭ ‬انتخابات‭ ‬اتحاد‭ ‬الأدباء‭. ‬ماهي‭ ‬إلاَّ‭ ‬نصف‭ ‬ساعة‭ ‬مضت‭ ‬حتى‭ ‬أطلَّ‭ ‬جان‭ ‬دمو‭ ‬وانضمَّ‭ ‬إلى‭ ‬مائدته؛‭ ‬نفث‭ ‬دخان‭ ‬سيجارته‭ ‬ثم‭ ‬أطلق‭ ‬ضحكة‭ ‬لها‭ ‬مغزى‭ ‬وسأل‭: ‬

‭- ‬من‭ ‬فاز‭ ‬‮«‬بالريسز»؟

كلمة‭ ‬‮«‬الريسز‮»‬‭ ‬تعني‭ ‬سباق‭ ‬الخيول،‭ ‬أطلق‭ ‬ضحكة‭ ‬ثانية‭ ‬وصاح‭ ‬على‭ ‬النادل‭ ‬ليجلب‭ ‬بطحة‭ ‬من‭ ‬الزعاف‭. ‬عندما‭ ‬حلَّ‭ ‬الغروب‭ ‬كانت‭ ‬المائدة‭ ‬مزدحمة‭ ‬بالأدباء‭ ‬الصعاليك‭ ‬والمهمشين،‭ ‬وتوالت‭ ‬الأنباء‭ ‬عن‭ ‬تزوير‭ ‬الانتخابات‭ ‬لمصلحة‭ ‬رعد‭ ‬بندر،‭ ‬حيث‭ ‬أنَّ‭ ‬خزعل‭ ‬الماجدي‭ ‬كان‭ ‬متقدِّما‭ ‬على‭ ‬منافسيّهِ‭ ‬بفرقٍ‭ ‬شاسعٍ‭ ‬حتى‭ ‬الساعة‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬فرز‭ ‬الأصوات؛‭ ‬لكن‭ ‬المعادلة‭ ‬تغيَّرت‭ ‬فجأة‭ ‬بعد‭ ‬وصول‭ ‬أوامر‭ ‬أولمبية‭ ‬مشدَّدة‭ ‬بضرورة‭ ‬تغيير‭ ‬مجرى‭ ‬الانتخابات؛‭ ‬وهكذا‭ ‬بدأ‭ ‬عباس‭ ‬الجنابي‭ ‬المشرف‭ ‬على‭ ‬إحصاء‭ ‬أصوات‭ ‬المقترعين‭ ‬من‭ ‬إضافة‭ ‬معظم‭ ‬الأصوات‭ ‬التي‭ ‬حصل‭ ‬عليها‭ ‬كزار‭ ‬حنتوش‭ ‬إلى‭ ‬رعد‭ ‬بندر‭ ‬ليتقدم‭ ‬على‭ ‬خزعل‭ ‬الماجدي‭ ‬خلال‭ ‬دقائق‭ ‬معدودة‭ ‬بلعبة‭ ‬مكشوفة‭ ‬أدركها‭ ‬جميع‭ ‬الأدباء‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬في‭ ‬قاعة‭ ‬المهندسين‭ ‬الزراعيين؛‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬يمتلك‭ ‬الشجاعة‭ ‬ويعترض‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬التزوير؟‭ ‬وصلت‭ ‬أنباء‭ ‬أخرى‭ ‬عن‭ ‬خروج‭ ‬الأدباء‭ ‬الفائزين‭ ‬من‭ ‬لقاء‭ ‬عدي‭ ‬بهبات‭ ‬مالية‭ ‬سخيَّة،‭ ‬وقد‭ ‬حرصوا‭ ‬على‭ ‬الكتمان‭ ‬الشديد‭ ‬حول‭ ‬تلك‭ ‬المكرمة‭ ‬الأولمبية،‭ ‬وظلَّ‭ ‬أمرها‭ ‬وسرها‭ ‬بينهم‭ ‬وقد‭ ‬اجتمعوا‭ ‬في‭ ‬اتحاد‭ ‬الأدباء‭ ‬بعد‭ ‬عودتهم‭ ‬من‭ ‬لقاء‭ ‬‮«‬الأستاذ‮»‬‭ ‬واختاروا‭ ‬وسام‭ ‬هاشم‭ ‬أميناً‭ ‬عاماً‭ ‬للاتحاد‭ ‬وجواد‭ ‬الحطَّاب‭ ‬نائباً‭ ‬له،‭ ‬فيما‭ ‬توَّزعت‭ ‬الشؤون‭ ‬المالية‭ ‬والداخلية‭ ‬والثقافية‭ ‬والعلاقات‭ ‬على‭ ‬باقي‭ ‬الفائزين‭. ‬كان‭ ‬الوقت‭ ‬غروباً‭ ‬عندما‭ ‬ترك‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬حانة‭ ‬روافد‭ ‬دجلة‭ ‬لينقل‭ ‬خطواته‭ ‬اليائسة‭ ‬إلى‭ ‬نادي‭ ‬الأدباء‭ ‬وثورة‭ ‬الغضب‭ ‬تشتعل‭ ‬بدمه،‭ ‬في‭ ‬الحديقة‭ ‬اختار‭ ‬مائدةً‭ ‬تطلُّ‭ ‬على‭ ‬الرواق‭ ‬المؤدي‭ ‬إلى‭ ‬الباب‭ ‬الرئيس‭ ‬لبناية‭ ‬الاتحاد،‭ ‬رفع‭ ‬ساقيّه‭ ‬فوق‭ ‬المائدة‭ ‬معلناً‭ ‬بشكل‭ ‬صريح‭ ‬عن‭ ‬تذمّره‭ ‬واحتجاجه‭ ‬وطلب‭ ‬من‭ ‬النادل‭ ‬أنْ‭ ‬يجيء‭ ‬بالزعاف؛‭ ‬لكنَّ‭ ‬النادل‭ ‬لم‭ ‬يستجب‭ ‬لهُ‭ ‬فتفاقم‭ ‬الغضب‭ ‬برأسه،‭ ‬لمح‭ ‬جواد‭ ‬الحطاب‭ ‬يرمقهُ‭ ‬بنظرةٍ‭ ‬مبهمةٍ؛‭ ‬كانت‭ ‬خليطاً‭ ‬بين‭ ‬المحبة‭ ‬والازدراء،‭ ‬استنجدَ‭ ‬به‭ ‬حتى‭ ‬يدع‭ ‬النادل‭ ‬يلبي‭ ‬رغبته،‭ ‬وكان‭ ‬لهُ‭ ‬ما‭ ‬أراد‭ ‬إذْ‭ ‬وضع‭ ‬النادل‭ ‬فوق‭ ‬طاولته‭ ‬نصف‭ ‬زجاجة‭ ‬من‭ ‬العرق‭ ‬لكن‭ ‬بعد‭ ‬طول‭ ‬انتظار،‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬أفرغها‭ ‬وطلب‭ ‬المزيد،‭ ‬وإذا‭ ‬بالنادل‭ ‬يريد‭ ‬ثمنها‭ ‬مقدَّماً،‭ ‬فتشَّ‭ ‬جيوبه‭ ‬ولم‭ ‬يجد‭ ‬أثراً‭ ‬حتى‭ ‬لربع‭ ‬دينار،‭ ‬فأخبر‭ ‬النادل‭: ‬

‭- ‬هات‭ ‬لي‭ ‬ربعاً‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الاتحاد‭.‬

‭- ‬الأستاذ‭ ‬لا‭ ‬يريدك‭ ‬تشرب‭ ‬المزيد‭.‬

‭- ‬أي‭ ‬أستاذ‭ ‬تقصد؟‭ ‬أستاذ‭ ‬الأولمبية‭ ‬أم‭ ‬الاتحاد؟

‭- ‬أستاذ‭ ‬رعد‭ ‬أصدر‭ ‬أمراً‭ ‬بمنع‭ ‬تقديم‭ ‬المشروب‭ ‬لك؛‭ ‬والخروج‭ ‬من‭ ‬النادي‭ ‬فوراً‭.‬

ضحك‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬بطريقة‭ ‬استفزازية؛‭ ‬كأنَّه‭ ‬يقول‭ ‬لخصومه‭ ‬تعالوا‭ ‬نتبارز؛‭ ‬وصرخ‭ ‬بالنادل‭: ‬

‭- ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تأت‭ ‬لي‭ ‬بالزعاف‭ ‬على‭ ‬جناح‭ ‬السرعة؛‭ ‬سأقلب‭ ‬النادي‭ ‬على‭ ‬رؤوس‭ ‬الجميع‭.‬

كانت‭ ‬كراسي‭ ‬الحديقة‭ ‬قد‭ ‬امتلأتْ‭ ‬بجلاسها‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬بينما‭ ‬تلفَّعت‭ ‬السماء‭ ‬بحجاب‭ ‬أسود،‭ ‬وليس‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬خمرٍ‭ ‬على‭ ‬مائدته،‭ ‬اقترب‭ ‬نادل‭ ‬آخر‭ ‬وطلب‭ ‬منه‭ ‬إنزال‭ ‬ساقيه‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬المنضدة،‭ ‬اضطرمت‭ ‬نيران‭ ‬الاحتجاج‭ ‬بعيني‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬لتنطلق‭ ‬الشتائم‭ ‬من‭ ‬لسانه‭ ‬الذرب‭ ‬محتجَّاً‭ ‬على‭ ‬الظلم‭ ‬والتهميش؛‭ ‬لم‭ ‬يتوقف‭ ‬عن‭ ‬الصراخ‭ ‬وهيجان‭ ‬الكلمات‭ ‬الحارقة‭ ‬تخرج‭ ‬تباعاً‭ ‬من‭ ‬فمه؛‭ ‬فيما‭ ‬أطار‭ ‬لبَّ‭ ‬عقله‭ ‬رؤية‭ ‬حميد‭ ‬قاسم‭ ‬جالساً‭ ‬إلى‭ ‬طاولةٍ‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬الفائزين،‭ ‬كأنَّ‭ ‬الإقصاء‭ ‬لهما‭ ‬في‭ ‬اللجنة‭ ‬الأولمبية‭ ‬لا‭ ‬يعنيه‭. ‬نهض‭ ‬مدمَّراً‭ ‬لتفريغ‭ ‬مثانته،‭ ‬وفي‭ ‬منتصف‭ ‬الرواق‭ ‬المؤدي‭ ‬إلى‭ ‬المرافق‭ ‬الصحية‭ ‬واجه‭ ‬رعد‭ ‬بندر؛‭ ‬فوجئ‭ ‬بكف‭ ‬بندر‭ ‬تلطم‭ ‬وجهه،‭ ‬وحين‭ ‬حاول‭ ‬رد‭ ‬الصفعة‭ ‬وقف‭ ‬بعض‭ ‬الفائزين‭ ‬حاجزاً‭ ‬لحماية‭ ‬رئيسهم‭ ‬ثم‭ ‬سحبوه‭ ‬عنوةً‭ ‬إلى‭ ‬غرفة‭ ‬في‭ ‬اتحاد‭ ‬الأدباء‭ ‬فيما‭ ‬كان‭ ‬صراخه‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬ساحة‭ ‬الاندلس؛‭ ‬والأكف‭ ‬الغريبة‭ ‬والصديقة‭ ‬تنهال‭ ‬على‭ ‬رأسه‭ ‬بالصفعات‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬حدب‭ ‬وصوب‭. ‬جلس‭ ‬على‭ ‬مقعد‭ ‬مقابل‭ ‬بندر‭ ‬الذي‭ ‬احتل‭ ‬مكانه‭ ‬خلف‭ ‬طاولته‭ ‬الأنيقة؛‭ ‬سمع‭ ‬خالد‭ ‬مطلك‭ ‬وهو‭ ‬أقرب‭ ‬الأصدقاء‭ ‬إلى‭ ‬نفسه‭ ‬يطلب‭ ‬من‭ ‬الندل‭ ‬الاتصال‭ ‬بالشرطة؛‭ ‬فنظر‭ ‬نحوه‭ ‬معاتباً‭ ‬فيما‭ ‬نفث‭ ‬مطلك‭ ‬دخان‭ ‬سيجارته‭ ‬بوجه‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬كمحقق‭ ‬محترف‭. ‬انهالت‭ ‬كلمات‭ ‬التهديد‭ ‬والوعيد‭ ‬من‭ ‬رئيسهم‭ ‬ثم‭ ‬انحنى‭ ‬لنزع‭ ‬حذائه؛‭ ‬فخلع‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬حذاءه‭ ‬أيضاً‭ ‬ولوَّح‭ ‬به‭ ‬أمام‭ ‬وجه‭ ‬رعد‭ ‬بندر‭ ‬وقال‭ ‬بشراسةٍ‭: ‬

‭- ‬اسمع‭ ‬يا‭ ‬رعد؛‭ ‬إذا‭ ‬ضربتني؛‭ ‬أضرب‭ ‬مرتين‭ ‬بحذائي‭ ‬على‭ ‬رأسك‭.‬

هنا‭ ‬تدخَّل‭ ‬الروائي‭ ‬جاسم‭ ‬الرصيف‭ ‬قائلاً‭ ‬بحزم‭: ‬

‭- ‬دعوهُ‭ ‬رجاءً؛‭ ‬أنا‭ ‬اتكفَّل‭ ‬بأمره‭.‬

لاذَ‭ ‬الجميع‭ ‬بصمت‭ ‬مطبق؛‭ ‬فيما‭ ‬أخذ‭ ‬جاسم‭ ‬الرصيف‭ ‬بصديق‭ ‬الغجري‭ ‬ليركبه‭ ‬على‭ ‬عجلٍ‭ ‬في‭ ‬سيارته‭ ‬السوبر‭ ‬الحمراء‭ ‬وانطلق‭ ‬إلى‭ ‬مرأب‭ ‬العلاوي؛‭ ‬وهناك‭ ‬وضع‭ ‬بيده‭ ‬خمسة‭ ‬دنانير‭ ‬وزجاجة‭ ‬عرق؛‭ ‬وأخبرهُ‭ ‬ناصحاً‭: ‬

‭- ‬إيَّاكَ‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬بغداد؛‭ ‬إيَّاك؛‭ ‬سيدمرونك‭ ‬إذا‭ ‬عُدت؛‭ ‬أفهمتْ؟

صعد‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬حافلةً‭ ‬تصل‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬مدينته‭ ‬المقدَّسة‭ ‬وخلايا‭ ‬جسده‭ ‬تستغيثُ‭ ‬من‭ ‬الألم‭. ‬

 


مشاهدات 92
الكاتب حسن‭ ‬النواب
أضيف 2024/07/22 - 3:38 PM
آخر تحديث 2024/07/27 - 1:49 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 310 الشهر 11673 الكلي 9373745
الوقت الآن
السبت 2024/7/27 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير