الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الشاعر‭ ‬والبلاد‭(‬21‭)‬

بواسطة azzaman

الشاعر‭ ‬والبلاد‭(‬21‭)‬

حسن النواب

 

لم‭ ‬يتمكَّنْ‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬من‭ ‬الاستحمام‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬شقيقتهِ‭ ‬لانقطاع‭ ‬الماء؛‭ ‬لكنَّهُ‭ ‬شذَّبَ‭ ‬لحيتهُ‭ ‬ورشَّ‭ ‬عطراً‭ ‬رخيصاً‭ ‬تحت‭ ‬إبطيّهِ‭ ‬بمحاولة‭ ‬يائسة‭ ‬لكتم‭ ‬رائحة‭ ‬متخمِّرة‭ ‬كانت‭ ‬تنبعثُ‭ ‬بلا‭ ‬هوادةٍ‭ ‬من‭ ‬مسامات‭ ‬جلده‭. ‬ارتدى‭ ‬قميصاً‭ ‬نظيفاً‭ ‬منحنهُ‭ ‬إيَّاهُ‭ ‬زوج‭ ‬أخته‭ ‬لينطلق‭ ‬بمركبة‭ ‬أجرة‭ ‬إلى‭ ‬مبنى‭ ‬اللجنة‭ ‬الأولمبية‭ ‬بعد‭ ‬أنْ‭ ‬تكرَّم‭ ‬صهره‭ ‬بدفع‭ ‬ثمن‭ ‬كرائها‭. ‬كانت‭ ‬الساعة‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬الثامنة‭ ‬والنصف‭ ‬صباحاً‭ ‬حين‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬البوَّابة‭ ‬الشاهقة‭ ‬للجنة‭ ‬الأولمبية؛‭ ‬كادت‭ ‬حياته‭ ‬تذهب‭ ‬أدراج‭ ‬الرياح‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الدقائق‭ ‬العصيبة‭ ‬عندما‭ ‬صوَّبَ‭ ‬جنود‭ ‬الحماية‭ ‬بنادقهم‭ ‬عليه،‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬وضعَ‭ ‬يديِّه‭ ‬فوق‭ ‬رأسه‭ ‬وأخبرهم‭ ‬بصوتٍ‭ ‬مرتبك‭: ‬

‭- ‬لا‭ ‬تطلقوا‭ ‬الرصاص؛‭ ‬أنا‭ ‬شاعر‭.‬

استفهم‭ ‬جنود‭ ‬الحماية‭ ‬عن‭ ‬السبب‭ ‬بقدومهِ‭ ‬إلى‭ ‬مقر‭ ‬اللجنة‭ ‬الأولمبية؛‭ ‬فأخبرهم‭ ‬أنَّ‭ ‬‮«‬الأستاذ‮»‬‭ ‬سيلتقي‭ ‬بالفائزين‭ ‬من‭ ‬انتخابات‭ ‬اتحاد‭ ‬الأدباء‭ ‬بعد‭ ‬نصف‭ ‬ساعة‭ ‬وهو‭ ‬أحدهم،‭ ‬ظلَّتْ‭ ‬الدهشة‭ ‬ترتسمُ‭ ‬على‭ ‬وجوههم؛‭ ‬فهم‭ ‬لا‭ ‬يمتلكون‭ ‬أية‭ ‬معلومة‭ ‬عن‭ ‬الانتخابات‭ ‬الملحمية‭ ‬التي‭ ‬جرتْ‭ ‬ظهيرة‭ ‬أمس،‭ ‬سألهُ‭ ‬أحدهم‭ ‬بلهجةِ‭ ‬أهل‭ ‬تكريت‭ ‬مستهجناً‭:‬

‭-  ‬‮«‬‭ ‬يَوَلْ؛‭ ‬باب‭ ‬المراجعين‭ ‬مو‭ ‬مِنْ‭ ‬هَين‮»‬‭.‬

أجاب‭ ‬كمن‭ ‬يعتذر‭:‬

‭- ‬هذه‭ ‬المرَّة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬أزور‭ ‬بها‭ ‬مقر‭ ‬اللجنة‭ ‬الأولمبية‭.‬

أشار‭ ‬أحدهم‭ ‬إلى‭ ‬باب‭ ‬تبعد‭ ‬مئات‭ ‬الأمتار‭ ‬عن‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬يقف‭ ‬عليه‭ ‬الآن،‭ ‬لينصرف‭ ‬عنهم‭ ‬بخطواتٍ‭ ‬سريعةٍ‭ ‬وقلبه‭ ‬يخفق‭ ‬كراية‭ ‬ممزقة‭ ‬في‭ ‬مهبِّ‭ ‬ريح،‭ ‬لما‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬الباب‭ ‬كان‭ ‬العرق‭ ‬قد‭ ‬غزاهُ؛‭ ‬وضجَّتْ‭ ‬الرائحة‭ ‬غير‭ ‬الطيبة‭ ‬في‭ ‬جسده؛‭ ‬ليس‭ ‬بعيداً‭ ‬أنْ‭ ‬تكون‭ ‬رائحته‭ ‬المزعجة‭ ‬عقبةً‭ ‬كَأْداءً‭ ‬أمام‭ ‬حضوره‭ ‬لذلك‭ ‬اللقاء‭ ‬الذي‭ ‬ربما‭ ‬سيغير‭ ‬مجرى‭ ‬حياته‭ ‬وينتشلهُ‭ ‬من‭ ‬الحرمان‭ ‬والعوز‭ ‬والصعلكة‭ ‬التي‭ ‬غدتْ‭ ‬تطحن‭ ‬بعظامه‭. ‬لم‭ ‬يتأخر‭ ‬كثيراً‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬الاستعلامات‭ ‬حين‭ ‬أخبرهم‭ ‬عن‭ ‬مراده؛‭ ‬إذْ‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬جاءت‭ ‬سيارة‭ ‬صغيرة‭ ‬وحملته‭ ‬إلى‭ ‬مقر‭ ‬اللجنة‭ ‬الأولمبية،‭ ‬دخلَ‭ ‬إلى‭ ‬قاعةٍ‭ ‬فارهةٍ‭ ‬بسقفٍ‭ ‬يرتفع‭ ‬عن‭ ‬رأسهِ‭ ‬بعشرات‭ ‬الأمتار،‭ ‬وهناك‭ ‬وجَدَ‭ ‬الأدباء‭ ‬الفائزين‭ ‬ينتظرون‭ ‬ساعة‭ ‬اللقاء؛‭ ‬هجس‭ ‬أنَّ‭ ‬ملامح‭ ‬بعض‭ ‬الوجوه‭ ‬قدْ‭ ‬تجهَّمتْ‭ ‬حالما‭ ‬غدى‭ ‬أمامهم،‭ ‬جلس‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬المقاعد‭ ‬الوثيرة‭ ‬فبادر‭ ‬الشاعر‭ ‬رعد‭ ‬عبد‭ ‬القادر‭ ‬وألقى‭ ‬عليه‭ ‬تحية‭ ‬دافئة‭ ‬طردتْ‭ ‬الاضطراب‭ ‬الذي‭ ‬لازمهُ‭ ‬بسبب‭ ‬بعض‭ ‬الوجوه‭ ‬الواجمة‭ ‬التي‭ ‬استقبلتهُ،‭ ‬فجأةً‭ ‬دبَّتْ‭ ‬حركة‭ ‬مريبة‭ ‬بين‭ ‬بعض‭ ‬الأدباء‭ ‬الفائزين‭ ‬مع‭ ‬مشاورات‭ ‬جانبية‭ ‬لوسام‭ ‬هاشم‭ ‬مع‭ ‬رعد‭ ‬بندر‭ ‬ليدخلا‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬إلى‭ ‬غرفة‭ ‬جانبية‭. ‬تأكَّدَ‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬ثمَّة‭ ‬مؤامرة‭ ‬تُطبخ‭ ‬ضدَّه؛‭ ‬ولما‭ ‬طلب‭ ‬من‭ ‬القاص‭ ‬شوقي‭ ‬كريم‭ ‬أنْ‭ ‬يرشده‭ ‬إلى‭ ‬المرافق‭ ‬الصحيَّة‭ ‬حتى‭ ‬يشطف‭ ‬وجهه‭ ‬بالماء‭ ‬نتيجة‭ ‬العرق‭ ‬الذي‭ ‬غزاهُ؛‭ ‬أجابهُ‭ ‬بصوتٍ‭ ‬متوترٍ‭: ‬

‭- ‬سندخل‭ ‬لرؤية‭ ‬الأستاذ‭ ‬بعد‭ ‬دقائق؛‭ ‬الأفضل‭ ‬أنْ‭ ‬تبقى‭ ‬في‭ ‬مكانك‭.‬

أذعنَ‭ ‬لوصيته‭ ‬ومكث‭ ‬في‭ ‬مقعده‭ ‬لا‭ ‬يريم؛‭ ‬حتى‭ ‬ظهر‭ ‬وسام‭ ‬هاشم‭ ‬من‭ ‬الغرفة‭ ‬الجانبية‭ ‬وتقدَّم‭ ‬نحوهم‭ ‬قابضاً‭ ‬بيده‭ ‬على‭ ‬ورقة‭ ‬صغيرة؛‭ ‬أخبرهم‭ ‬بصوت‭ ‬متعثر‭: ‬

‭- ‬الأستاذ‭ ‬شطبَ‭ ‬على‭ ‬ثلاثة‭ ‬أسماء‭ ‬منكم‭ ‬مع‭ ‬الأسف؛‭ ‬وعليهم‭ ‬مغادرة‭ ‬المكان‭.‬

خيَّمَ‭ ‬صمتٌ‭ ‬مفزع‭ ‬على‭ ‬الجميع؛‭ ‬كان‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬الأسماء‭ ‬الثلاثة‭ ‬التي‭ ‬حذفها‭ ‬عدي‭ ‬من‭ ‬قائمة‭ ‬الفائزين؛‭ ‬فيما‭ ‬هبَّ‭ ‬الشاعر‭ ‬حميد‭ ‬قاسم‭ ‬من‭ ‬مقعده‭ ‬منزعجاً‭ ‬لدى‭ ‬سماعه‭ ‬نبأ‭ ‬شطب‭ ‬اسمه‭ ‬وتساءلَ‭ ‬بنبرةٍ‭ ‬ساخطةٍ‭: ‬

‭- ‬لماذا‭ ‬طلبتم‭ ‬منا‭ ‬الحضور‭ ‬إذن؟‭ ‬هذه‭ ‬مهزلة؛‭ ‬لقد‭ ‬صادق‭ ‬القاضي‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬الأسماء‭ ‬الفائزة؛‭ ‬فلماذا‭ ‬هذا‭ ‬الإقصاء‭ ‬المقصود‭ ‬لأسمائنا؟‭! ‬طُزْ‭..‬

والتفت‭ ‬نحو‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬قائلاً‭:  ‬

‭- ‬هيَّا‭ ‬لنخرج‭..‬

عندما‭ ‬أصبحا‭ ‬خارج‭ ‬مبنى‭ ‬اللجنة‭ ‬الأولمبية‭ ‬قال‭ ‬حميد‭:‬

‭- ‬إنَّهُ‭ ‬لشرف‭ ‬لنا‭ ‬أنْ‭ ‬نُطرد‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭.‬

كان‭ ‬برفقتهما‭ ‬أديبٌ‭ ‬بصري‭ ‬شطبَ‭ ‬عدي‭ ‬على‭ ‬اسمه‭ ‬أيضاً؛‭ ‬وقد‭ ‬خيَّم‭ ‬الحزن‭ ‬على‭ ‬ملامح‭ ‬وجهه‭ ‬فقال‭ ‬بأسى‭: ‬

‭- ‬أنا‭ ‬عضو‭ ‬شعبة‭ ‬في‭ ‬الحزب،‭ ‬أكادُ‭ ‬لا‭ ‬أصدق‭ ‬أنَّ‭ ‬الأستاذ‭ ‬حذفَ‭ ‬اسمي؟

ضحك‭ ‬حميد‭ ‬قاسم‭ ‬وأخبرهُ‭ ‬متهكماً‭: ‬

‭- ‬ربما‭ ‬لأنَّكَ‭ ‬من‭ ‬الحرس‭ ‬القديم‭.‬

أردف‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬قائلاً‭: ‬

‭- ‬أما‭ ‬نحنُ‭ ‬فسنراجع‭ ‬جان‭ ‬دمو‭ ‬لمعرفة‭ ‬سبب‭ ‬شطب‭ ‬اسمينا‭.‬

افترقا‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬الأديب‭ ‬البعثي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬رئيسا‭ ‬لاتحاد‭ ‬أدباء‭ ‬البصرة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬وكان‭ ‬يحمل‭ ‬صفة‭ ‬دكتور‭ ‬في‭ ‬الأدب،‭ ‬فيما‭ ‬أخذ‭ ‬قاسم‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬إلى‭ ‬محل‭ ‬سكناه‭ ‬في‭ ‬زيونه،‭ ‬لما‭ ‬وصلا‭ ‬كان‭ ‬ابنه‭ ‬البكر‭ ‬بانتظارهما؛‭ ‬نطقَ‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬بانكسار‭: ‬

‭- ‬يا‭ ‬إلهي‭ ‬ماذا‭ ‬ستقول‭ ‬لمجد؟

أجاب‭ ‬حميد‭ ‬بعينين‭ ‬لامعتين‭ ‬بالزهو‭: ‬

‭- ‬سأقول‭ ‬لهُ‭ ‬باعتزاز‭ ‬إنَّ‭ ‬أباك‭ ‬لا‭ ‬يحبّهُ‭ ‬ابن‭ ‬الرئيس‭.‬

جلس‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬ساعةً‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬في‭ ‬مشتمل‭ ‬قاسم‭ ‬لينطلق‭ ‬بعدها‭ ‬إلى‭ ‬أقرب‭ ‬حانة‭ ‬بمحاولة‭ ‬إلى‭ ‬إخماد‭ ‬سعير‭ ‬النار‭ ‬في‭ ‬دمه؛‭ ‬فيما‭ ‬راحتْ‭ ‬تنضجُ‭ ‬فكرة‭ ‬خطيرة‭ ‬في‭ ‬رأسه‭ ‬سينفذها‭ ‬عندما‭ ‬يدخل‭ ‬نادي‭ ‬الأدباء‭ ‬هذا‭ ‬المساء‭. ‬


مشاهدات 183
الكاتب حسن النواب
أضيف 2024/07/08 - 3:53 PM
آخر تحديث 2024/07/27 - 3:44 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 359 الشهر 11722 الكلي 9373794
الوقت الآن
السبت 2024/7/27 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير