وتلك الأيام ندّاولها
لطيف القصاب
للمرة الثانية وللسبب نفسه، وهو ضيق ذات اليد، يُرقن قيدي الجامعي.
المرة الأولى كانت أواخر الثمانينيات من كلية طب الجامعة المستنصرية، والأخرى أواخر التسعينيات من كلية التربية/ جامعة بابل، قررتُ بعدها الرحيل « للخارج»، فأنفقت حوالي ثمانمئة ألف دينار عراقي في استحصال جواز السفر فقط، وأغلب الظن أنّ السبب وراء تضخم مبلغ الحصول على الجواز مردّه إلى بطاقة تسريحي من الجيش ذات اللون الأحمر... كانت وجهتي إلى الأردن، وقد أعددتُ نفسي للعمل مترجمًا فوريًا في «وادي موسى» دليلا سياحيًا، لكن هذا الأمر لم يتمّ أبدًا لأسباب من أهمها قرار الحكومة الأردنية منح ثلاثين دينارًا لكل رجل أمن يتمكن من القبض على عراقي يعمل من دون ترخيص لاسيما في الأعمال الجيدة إلى حدّ ما ، ولانّ مسألة نيل ترخيص العمل كانت أمرًا مستحيلًا ب( النسبة) لأمثالي!
فردوس مفقود
ففقد عملت نادلًا في مطعم السفراء بحيّ نزّال لمدة 14 ساعة في اليوم، وبراتب مجزٍ قياسًا بما كنت أتقاضاه في العراق؛ هذا العراق الذي كنت أرى فيه قبل خروجي منه أسوأ بقعة على وجه الأرض، وما أن خرجت حتى صار بمنزلة الفردوس المفقود!
ولكن للإنصاف فقد صادفت في الأردن مواقف في منتهى النبل لأردنيين بتلك التجربة التي أعدها أعظم تجربة في حياتي كلها؛ من ذلك حينما عملتُ بصفة عامل بناء في عمّان، كانت صاحبة المنزل امرأة طاعنة بالسن، أو «ختيارة» بتعبير أهل المدينة، وفور اجتيازنا لعتبة الدار قال الأسطا خميس مخاطبا إياها : «لموا الأواعي» يا حاجة، وكان يقصد بالأواعي أغراض البيت لاسيما هواتف الجوال التي كانت متناثرة على بعض أثاث تلك المرأة الموسرة، فإذا بالختيارة تردّ على خميس المصري بالقول:
إلي معاك عراكية، فقال خميس : نعم عرائيين، لتردّ عليه العجوز بكلام الواثق المطمئن: اترك كل شي على حالو العراكي»العراقي» ما بيسرك» ما بيسرق»...
شعراء اردنيين
وفي عمّان الجميلة انتميت لرابطة الإبداع للشباب الأدباء، واعتليتُ منصة اتحاد الشعراء الأردنيين مرتين كما استطعتُ نشر أول نصّ لي في جريدة الزمان الدولية عام 2001!
قبل أيّام صادفتُ أردنيا حاول أن يقنعني بأنّه عراقي. كان يجيد اللهجة العراقية إلى حدّ كبير مع هذا استطعت التعرّف عليه من « أول» جملة قالها. كان يبيع « الشحاطات» على (بسطة) في سوق باب الخان. اخترتُ واحدة منها واتفقنا على السعر. أعطاني ما طلبتُ ولكن حجم الشحاطة 40 ، فقلت له أريد : 42 ، وبسرعة خاطفة وضعها في الكيس، ثم أخذتها وانصرفت بعد أن قلت لجاره البائع العراقي : هذا الرجال غريب دير بالكم عليه، فردّ عليّ البائع : يدلل دكتور.
حين وصلت إلى البيت استغربتُ من أن حجم الشحاطة لم يزل 40 ! في اليوم التالي توجهت إلى باب الخان، فرأيت شخصًا يبيع شحاطات أفــــــــضل وبسعر أقل، وعلى الفور اشتريتُ واحدة، وقررت أن أرجع الشحاطة فما حاجتي بشحاطتين! الغريب أنني لم أعثر على البائع أبدًا، فماذا أفعل بالشحاطة رقم 40 ؟ فكّرت أولا أن أعطيها لشخص من عائلتي يلائمه هذا الرقم، لكنني لم أجد، فوضعتها بالحمّام...