الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
ثنائية الجاني والضحية في الخطاب الرسمي العراقي: نقد لمنطق الاصطفاء الأخلاقي 

بواسطة azzaman

ثنائية الجاني والضحية في الخطاب الرسمي العراقي: نقد لمنطق الاصطفاء الأخلاقي 

همام طه 

 

أعلن بيان إعلامي صادر عن جهة سيادية في الدولة العراقية القبض على شخص متهم بجريمة قتل وصفه البيان بأنه "قاتل الصحفي ل.م.ر"!

مثل هذا التعبير الوارد في البيان يطرح عدة تساؤلات نقدية حول الخطاب الإعلامي الرسمي ومدى تأثره بالانفعالات العامة. فالبيان صادر عن جهة سيادية معنية بتطبيق القانون يفترض أن ينأى صنّاع خطابها عن توريطها في صيغ تعبيرية ومفردات تتسم بعدم الموضوعية والدقة القانونية وبشكل يتناقض مع استقلالية وحيادية وسيادية المؤسسات الرسمية. عدم اختيار المفردات المناسبة في توصيف أطراف قضية معينة ومواقفهم وأفعالهم وأدوارهم قد يشي بعدم وضوح فكرة العدالة والمساواة لدى صنّاع الخطاب الرسمي، ومسايرة ومحاكاة هذا الخطاب لاتجاهات غير عقلانية في الفضاء الاجتماعي.

ومن الأسئلة التي تبدو مشروعة في هذا السياق:

لماذا وصف هذا البيان الإعلامي المتهم بأنه "قاتل" بينما وصف الضحية بأنه "الصحفي"؟

لماذا أثبت البيان التهمة على المتهم قبل بدء التحقيقات الفعلية وأخذ العدالة الجنائية مجراها وصولاً إلى مثول المتهم أمام القضاء وخضوعه لمحاكمة عادلة وشفافة والنطق بالحكم النهائي؟

إن وصف المتهم بأنه "قاتل" قبل صدور حكم قضائي يثير تساؤلات عن افتراض الإدانة قبل المحاكمة، وهو انتهاك لمبدأ "المتهم بريء حتى تثبت إدانته".

أليس في وصف المتهم بأنه "قاتل" تجريد له من صفات أخرى مثل الإنسانية والمواطَنة؟

أليس في وصفه بأنه "قاتل الصحفي" إيحاء بأن الهدف هو إلقاء القبض على الجاني المشتبه به؛ للانتقام للصحفي القتيل منه وإرضاء الجمهور المنفعل؛ وليس تحقيق العدالة لكل من المجني عليه وذويه والجاني المشتبه به، وللمجتمع كله؟

أليس في وصفه بأنه "قاتل الصحفي" انتهاك لمبدأ المساواة بين المواطنين ومبدأ المساواة أمام القانون ومبدأ سيادة القانون؟ فهذا الخطاب يعطي مركزية وأفضلية للضحية كونه صحفياً بينما يهمّش المتهم ويقلّل من شأنه مقارنةً بالضحية، في حين أن الشخصين، المتهم والمجني عليه، مواطنان عراقيان متساويان أمام القانون. ويُفترض أن يخضعا معاً لسيادة القانون الذي سيحدّد مسؤولية كل من الجاني المشتبه به والمجني عليه عن حصول الجريمة. 

وما معنى استخدام الصفة المهنية في وصف الضحية، مع العلم أن التحقيقات لم تبدأ فعلياً ولم يثبت أن جريمة القتل تمت بدوافع تتعلق بمهنة الضحية أو أنها جريمة ذات بُعد سياسي يرتبط باستهداف الصحفيين بوصفه تهديداً لحرية التعبير؟

إن وصف الضحية بمهنته خلال مرحلة التحقيق قد يثير تساؤلات قانونية، حيث إنه قد يوحي للمتلقي بوجود علاقة بين الجريمة ومهنة الضحية قبل أن يتم إثبات ذلك من خلال التحقيقات أو الحكم القضائي النهائي. فما قيمة التحقيقات والمحاكمة إذا كان الخطاب الرسمي قد أقرّ وقرّر مسبقاً أن المجني عليه قُتل بسبب عمله الصحفي. هذا التسرع في التوصيف يتعارض مع المبادئ الأساسية للعدالة، مثل مبدأ الحياد القانوني والمصداقية والشفافية في عمل مؤسسات الدولة. كما أنه يشكّل انتهاكاً لاستقلالية القضاء لأنه يصادر دوره في تحديد الدافع أو السبب الحقيقي وراء ارتكاب الجريمة ومن ثم إصدار الحكم على المتهم على أساس هذا الدافع والحيثيات والقرائن الأخرى وعلى أساس دراسة القضاة للقضية وأسلوب تفكيكهم وتكييفهم لها وفق القانون.

هل يمكن الاستنتاج أن إعلام الدولة يتأثر بالضغط الشعبي والانفعالات العاطفية في مواقع التواصل الاجتماعي في صياغة خطابه المرتبط بالقضايا الجنائية والسياسية والعامة حتى قبل أن تصدر الجهات المختصة قرارها وقبل أن تبدأ التحقيقات وقبل أن يقول القضاء كلمته الفصل؛ فهذا ما تجسّد في مسارعة بيان إعلامي رسمي للحطّ من شأن المتهم في هذه الجريمة بالجزم بأنه "قاتل" (وهو حكم أخلاقي وليس توصيفاً جنائياً فقط) مقابل الإعلاء من شأن الضحية بوصفه بأنه "الصحفي" (وهو لقب اعتباري ويكاد يكون فئوياً وطبقياً وليس مهنياً فقط)؟

هل يمكن القول إن الخطاب الرسمي يعكس في صياغته مزاج الرأي العام وانفعالاته وانحيازاته بدلاً من الالتزام بالحياد القانوني والمسؤولية المهنية والحسّ المؤسسي والسلوك السيادي؟

هل يمكن الاستنتاج أن الصحفيين وفق هذا الخطاب هم "فئة مميزة" طبقياً واعتبارياً في المجتمع العراقي وأن جريمة قتل "الصحفي" (سواء كانت جنائية أو سياسية) هي أشد فداحة من جريمة قتل أي إنسان عراقي "عادي" آخر؟

ألا تحمل عبارة "قاتل الصحفي" إيحاءً بالتضاد الأخلاقي بين الضحية والجاني، مما قد يختزل القضية في ثنائية تبسيطية؟

أليس في عبارة "قاتل الصحفي" إيحاءٌ بتقسيم المجتمع ضمنياً إلى ضحايا أخيار وجناة أشرار، مما قد يُغفل تعقيدات الجريمة ودوافعها الجنائية؟

لماذا يُعرَّف المتهم بجريمته المفترضة فيُقال عنه "قاتل"، بينما يُعرَّف المجني عليه بمهنته فيُقال عنه "الصحفي"؟ أليس في ذلك انزلاقٌ نحو ترسيخ ثنائية قد تُفهم على أنها تصنيف ضمني للمجتمع إلى "أشرار" لا يكونون إلا قتلة و"أخيار" لا يكونون إلا ضحايا، مما قد يؤثر على حياد الخطاب الرسمي ويُفضي إلى تبسيط غير دقيق للعدالة؟

ألا تعكس ثنائية "القاتل" و"الصحفي" انحيازاً ضمنياً يصنّف الأفراد وفقاً لأدوار أخلاقية مسبقة، بشكل قد يُشبه منطق الاصطفاء الاجتماعي، حيث يُمنح بعضهم رمزية الضحية النبيلة بينما يُختزل آخرون في صورة المجرم، دون مراعاة تعقيدات الواقع ومسار العدالة؟

هل تحظى بعض الفئات الاجتماعية بحساسية خاصة لدى الدولة عند مقتل أحد أفرادها، مما يثير أسئلة عن قيمة "حياة المواطن العادي" في الخطاب الرسمي؟

هل تعكس هذه الصياغة أن حياة بعض الفئات تُعتبر أكثر قيمة من غيرها في الخطاب الرسمي؟

هل العدالة مطلوبة للضحايا والمجني عليهم فقط أم أنها حق للمتهمين والجناة المدانين أيضاً؟ هل يمكن وصف العدالة بأنها عدالة حقيقية إذا كانت مكفولة للضحية فقط دون الجاني؟

العدالة تنصف الضحايا بحفظ حقوقهم وردع الجريمة، لكنها لا تكتمل إلا بمنح الجناة محاكمة عادلة تضمن عدم التسرع في إدانتهم. فكما يستحق الضحايا الإنصاف، يستحق المتهمون فرصة للدفاع عن أنفسهم، لأن العدالة الحقيقية لا تُجزّأ، بل تقوم على المساواة أمام القانون دون تحيز أو انفعال.

وتضمن العدالة أن يكون الرد على الجريمة مؤسساً على القانون لا على الانفعالات. عندما تُطبَّق العدالة بشفافية ونزاهة، وتلتزم بها كل مؤسسات الدولة، فإنها لا تنصف الضحايا فحسب، بل تعزز ثقة المجتمع بمؤسساته، مما يُرسِّخ الاستقرار ويحول دون تكرار الانتهاكات.

إن النقد الأساسي الموجّه للبيان الرسمي في هذا المقال يتمحور حول فكرة أن التجرد والحيادية في التعامل مع أطراف قضية معروضة أمام القضاء، حتى على مستوى المفردات التي تستخدم في توصيف كل طرف في القضية، تلعب دوراً في تكريس العدالة كقيمة عليا في المجتمع والدولة بدلاً من التحيز لطرف على حساب آخر.

في هذا السياق، قد يكون من المناسب استذكار رواية تراثية منسوبة للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، جاء فيها:

"اشتكى رجل على الإمام علي عند أحد الخلفاء، فالتفت الخليفة إلى الإمام فقال: "قم، يا أبا الحسن فاجلس مع خصمك" فقام الإمام فجلس معه. وبعد انتهاء عملية التقاضي اعترض الإمام على الخليفة قائلاً: "كنيتني بحضرة خصمي، هلا قلت: قم، يا علي فاجلس مع خصمك""! 

ملاحظات:

1- تمت الإشارة في مقدمة هذا المقال إلى اسم الصحفي الفقيد بالأحرف الأولى حرصاً على عدم زجّ اسمه الصريح في مقال سياسي جَدَلي؛ إجلالاً لروحه (رحمه الله)، واحتراماً لمشاعر الحزن والألم والفقد التي تعيشها أسرته الكريمة وأصدقاؤه ومحبّوه. 

2- ومن الإنصاف توضيح أن البيان الإعلامي محل البحث استخدم وصفين آخرين للمتهم إلى جانب وصفه بـ "قاتل الصحفي"، هما "المتهم" مرة، و"الجاني" مرة ثانية.

 

 

 


مشاهدات 181
الكاتب همام طه 
أضيف 2025/03/29 - 2:00 AM
آخر تحديث 2025/03/31 - 6:43 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 528 الشهر 19575 الكلي 10580524
الوقت الآن
الإثنين 2025/3/31 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير