الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
في الذكرى الثانية لرحيل الأديب شكر حاجم الصالحي.. محبة بقدر لوعة الغياب


في الذكرى الثانية لرحيل الأديب شكر حاجم الصالحي.. محبة بقدر لوعة الغياب

أحمد الناجي

 

 

جاءت وفاة شكر حاجم الصالحي، في مفتتح شهر آب 2023، لتضع حداً ليس لحياة أديب متنوع الاشتغالات الإبداعية فحسب، بل هي خسارة فادحة لأحد أبرز الرموز الثقافية الفاعلة، ممن كرس حياته بحب ووعي لخدمة الثقافة الحلّية بصفة خاصة والعراقية على وجه العموم، دعماً ورعاية وتشجيعاً، بإخلاص نادر طوال حياته، دون أن تحكمه حسابات ضيقة أو اعتبارات نفعية، بل بدافع نبيل ووفاء لقيمة الكلمة ودورها في بناء المجتمع. وإيمان عميق بدور الثقافة في إعلاء الوعي وتعزيز القيم الإنسانية.

ولد شكر سنة 1947 في قرية السادة التي تقع على بُعد مسافة نحو خمسة كيلومترات، الى الجنوب الشرقي من مدينة الحلة على الشارع السياحي الذي يربط مدينة الحلة بقضاء الهاشمية. وبعد مضي فترة قصيرة انتقل الأب تبعاً لعمله برفقة كافة أفراد العائلة الى ناحية (السدة)، حيث نشأ في ربوعها، ودخل المدرسة في مرحلتي الابتدائية والمتوسطة فيها، وبسبب عدم وجود مدرسة إعدادية في السدة انتظم بالدراسة في ثانوية المسيب، التي تقع على مسافة قريبة نسبياً، حيث تبعد نحو سبعة كيلومترات.

وحول بدايات انغماره في ممارسة الكتابة أفادنا شكر نفسه في حديث موثق، بأن مدرس اللغة العربية في متوسطة السدة، واسمه (رصين عزيز سامي)، كان يقوم برعايته وتشجيعه، حين وجد فيما يكتبه بدفتر الانشاء (التعبير) صالحاً للنشرة الجدارية، وهذه هي الانطلاقة التي تعززت مع رغبة الذات على التميز أمام الطلاب والطالبات في مدرسته المختلطة، ثم في الثانوية كان هناك مدرس اللغة العربية الأستاذ (مزهر عبد موزان السوداني)، وهو من مدينة العمارة، ولكنه من سكنة بغداد، مهتماً برعاية موهبة الكتابة لدى طلبته، وأشار شكر الى أنه كان في مقدمة من يحثهم ويحفزهم على كتابة الشعر، ولأجل ذلك أهداه كتاب (ميزان الذهب في صناعة شعر العرب) للسيد أحمد الهاشمي. وكان يقوم أيضاً بتقديم شروحات أولية في الصف خارج المنهج المدرسي حول العروض، مركزاً على بحور الفراهيدي الشعرية السهلة بالنسبة للمبتدئين، وهي (الرمل) و(الكامل)، والمفارقة أنه كان يقوم بتمزيق ما يكتبه الطلاب على العكس من مظنتهم بأنه سوف يحصلون على الإشادة والتقييم لما يقدموه له. ولكنه كان يطلب منهم تكرار المحاولة. وفي إحدى المرات بعد مضي قرابة الشهرين، سلمه شكر الطالب في الصف الخامس الأدبي قصيدة مؤلفة من عشرة أبيات، استحسنها الأستاذ ووضعها في جيبه، وجاء اليه بعد أيام وبيده جريدة (أبناء النور) التي كانت تصدر في بغداد ورئيس تحريرها كاظم الطباطبائي وهي خاصة بجمعية المكفوفين العراقيين على حد قول شكر نفسه. ولكن الحقيقة حين راجعنا كتاب (كشاف الجرائد والمجلات العراقية)، وجدنا أنها مجلة وليست جريدة خاصة بجمعية الخدمة الاجتماعية للمكفوفين في العراق، صدرت في بغداد 10 تشرين الأول 1965. (زاهدة إبراهيم، ص193) وبذا فأن بواكير قصائده المنشورة كانت باللغة الفصحى أواخر سنة 1965.

تعرّف شكر في تلك الأثناء على أحد أبرز الشعراء الشعبيين، (هادي جواد التميمي) في مدينته السدة، وهو شاعر بارز من مواليد 1933، وله العديد من القصائد المغناة من قبل مطربين مشهورين، والتي تبث في الإذاعة العراقية. وكان له أثر بالغ في صقل موهبة صاحبنا وتوجيه مسيرته الأدبية، إذ استفاد منه كثيراً، ليس فقط على صعيد الأسلوب واللغة، بل في اكتشاف الإمكانات التعبيرية الهائلة للغة المحكية، فكان لقاؤه به بمثابة بوابة فتحت أمامه آفاق الكتابة باللغة المحكية، وأمدّته بالثقة والرؤية لخوض هذا المسار الإبداعي بجرأة واقتدار.

بعد أن نال شكر شهادة المرحلة الاعدادية، وجد نفسه مقبولاً في كلية الحقوق بجامعة البصرة على غير هوى الروح، إذ لم يكن خيار الدراسة الجامعية هذا يلبي رغبته، ولم تنجح محاولته في الانتقال الى كلية التربية المتناغمة مع تطلعاته، فركن الى قرار ترك الدراسة على أثر اشتداد ضيق الحال، وهو في الصف الثاني بعد أن تعذر اتمام مسألة قبوله في القسم الداخلي. فعاد الى مدينته وهناك غصة تساكن النفس، وجوى ينهش أعماق الروح بصمت لا يهدأ ولا يحتمل.

وحين وجد شكر نفسه في مواجهة الأمر الواقع، وأدرك عن كثب الضائقة المالية الخانقة التي كانت تمر بها عائلته، لم يتوانَ عن التصدي لتحديات الحياة، فاندفع بكل ما يملك من عزيمة وإصرار، متنقلاً بين أعمال شتى، باحثاً عن مورد يسد به حاجته الشخصية، ويعين أهله، ويخفف عنهم وطأة العوز، وقد واجه تلك الظروف الصعبة بروح مسؤول مبكر، وشعور متنامٍ بواجب العطاء. فعمل في معمل الحرير الصناعي في السدة، كما اشتغل أيضاً في معمل نسيج الحلة. كذلك عمل كاتباً في مصلحة مشروع المسيب الكبير، ومن ثم انتقل الى مديرية دور الثقافة الجماهيرية، ومنها الى الدار الوطنية للتوزيع والإعلان، وبقي حتى أحيل على التقاعد سنة 1988. 

دخل شكر حاجم الصالحي الى عوالم الثقافة، منتصف ستينيات القرن الماضي من باب الشعر الشعبي، وانشغل بالكتابة في حقول إبداعية متعددة، تنوعت مدوناته الإبداعية بين عدة مجالات وأنشطة مختلفة: الشعر، والقصة، والمقالة الصحفية، والتراث الشعبي، والمتابعة النقدية على وقع الانطباع لكثير من النتاجات الأدبية والفنية والثقافية، وأشار الدكتور صباح المرزوك في ترجمته للشاعر الى أنه قد نشر نتاجه خلال الستينيات في عدة صحف، وهي: (الجهاد، والوطن العربي، والأنباء الجديدة، والامل، وأبناء النور). ونشر كثير من النتاجات خلال عقد السبعينيات في الدوريات العراقية المختصة بالشأن الثقافي، وأبرزها: (مجلة التراث الشعبي، ومجلة الطليعة الأدبية، ومجلة الأقلام)، فضلاً عن الصحافة العراقية والعربية، ووقفنا على مواد منشورة له خلال عقد الثمانيات في دوريات ثقافية خارج العراق، ومنها على سبيل الاستشهاد: (مجلة الاتحاف التونسية).    

تميز شكر بحضوره البارز في الحياة الثقافية، وعُرف بتعدد العطاءات الإبداعية، وصار اسماً معروفاً في مشهدية الثقافة العراقية، والأوساط الأدبية، كما أسهم بفاعلية في تنشيط الفضاء الإبداعي في مدينته الحلة، وبخاصة عبر نشاطات اتحاد أدباء وكتاب بابل، الذي كان هو أحد مؤسسيه منذ سنة 1984، وتصدى فيه الى العمل الإداري من خلال عضوية الهيئة الإدارية، كما ترأسه لعدة دورات انتخابية، كذلك من خلال اسهاماته في الفعاليات الثقافية والمنتديات الفكرية، منها على سبيل المثال: جمعية الشعراء الشعبيين، ما جعله صوتاً مؤثراً في المشهد الأدبي والفكري، وعمل أيضاً مديراً لتحرير جريدة (الجنائن) الحلّية التي أصدرتها محافظة بابل خلال الفترة (18 حزيران 2000-17 آذار 2003).

بانت روح الشاعر القلقة، وتجلت مرتكزاته الشعرية في غالبية نصوصه المتأخرة، على منحى استحضار أحداث وحوادث من الماضي، إذ انسابت القصائد وقد تلبسها شعور عميق بالضياع، وكأنها شذرات من ذاكرة مثقلة، وقد بُنيت هذه النصوص على استدعاء مستمر لمخزونات الذاكرة، مرة بعد مرة. حيث تتراكب الاستعارات وتتداخل مع تفاصيل حياته اليومية، وتنسج بين الماضي والحاضر خيوطًا من التأمل والحنين، في محاولات لا تهدأ للقبض على ما يتفلت من المعنى والزمان. فتستحيل خلجات الروح وشظايا انفعالات الوجدان الى دلالات ومعاني، تنعكس بشكل إيجابي على جدية ما تفيض به قريحة الشاعر, وأن كل ما يدونه في لغة أنيقة، وكلمات منتقاة بعناية، تتصاعد للوصول الى شعرية غنائية في أغلب الأحيان، تتهادى من بين يديه بعذوبة الى مسامع المتلقي، سواء أكان مبتنى النص الشعري متكأ على اللغة الفصحى أم المحكية الدارجة، أحاسيس شفيفة وعواطف إنسانية منثالة في صور فنية بوجوه متعددة، تشكل تصورات ورؤى، معانيها تطل علينا من نوافذ البحث عن الأمل، منقباً بالتقصي في دائرة الاكتمال عن الطموح والأنموذج الأمثل، يأتينا كلّ ذلك مترافقاً مع سيل من الاستفهامات، حيث لا يكاد ينقضي سؤال حتى ينبثق آخر، في سلسلة من التساؤلات التي لا تنتهي، تعكس قلقاً ورغبة دؤوبة في الفهم والتأمل، كأنها محاورة لا تنقطع بين العقل والوجدان، بحثاً عن إجابة قد لا تأتي، أو قد تأتي محملة بمزيد من الغموض، سيما حين تجوب في مسارب الكلمات معتنية التحريض والرثاء، تستنهض الناس في الزمن الانتكاسي، وترثي الأحلام المهزومة.

شكر.. شاعر غزير الانتاج، يحوز على أدوات فن القول، ويمتلك ذاكرة يقظة ومتوقدة تحمل بين ثناياها تفاصيل كثيرة من سنوات الحياة المديدة الحافلة بأنفاس الناس والآثار والأمكنة، وباتت لديه ذكريات الماضي بكل محمولاتها المنطوية على الخسارات والانكسارات، حاضرة ومغوية، تحاصر مخيلته الخصبة، وهي من أشد المحرضات التي تستفز أحاسيسه، وتستثير مشاعره على إنتاج النص، إذ تمنحه الجرأة على القول، وتدفعه الى ممارسة طقس الكتابة بلا أقنعة، وليس أمامه وهو يتحسس اللحظة الراهنة القاتمة، إلا استدعاء الماضي بغية مقاربته مع الحاضر، ولما تنساب الكلمات يترك اللحظة القصيرة، حيث تمتد مطامحه الى هواجس انتظار ما هو آت، واستجداء أزمنة قادمة.

وبلغت آثاره المطبوعة أزيد من أربعين مؤلفاً، أخذت الدواوين الشعرية منها الحصة الأرأس، نحو ستة عشر ديواناً، وتوزعت بقية مدوناته على حقول الأدب المتعددة ومجالات الثقافة المتنوعة: القصة، والمقالة، والنقد الأدبي، وسرديات السيرة، والموروثات الشعبية، والتوثيق التاريخي، وعرض الكتب.

اختار شكر أقداره، حيث لا يعرف ان يستبدل وجهه أو يساوم على ما آمن به، ومارس وجوده في الاستمرار على الكتابة التي ملأت عليه أوقاته، وظلت همومه تتدفق على الورق بلا انقطاع، إذ لم ينفك عن ملازمة الورقة والقلم، وكانت الكتابة شغله الشاغل ومتنفسه الأصيل، استحوذت على وجدانه، وظل مواظباً عليها، فلم يتخلَ عنها يوماً، وواصلها بإصرار ومحبة حتى أسدل ستار حياته، مغادراً الى بارئه، الى حيث تكون راحة البال. ولا يزال الشاعر شكر حاجم الصالحي في ذكرى رحيله الثانية حاضراً بيننا، يطل بوجهه الوفي من زوايا المشهد الثقافي الحلي الذي أفنى عمره في خدمته ورعايته، بعدما ترك بصماته الواضحة على العديد من الأنشطة في حقول الإبداع، تاركًا إرثاً غنياً وأثراً لا يُمحى في ذاكرة المدينة الثقافية.


مشاهدات 109
الكاتب أحمد الناجي
أضيف 2025/07/30 - 1:52 PM
آخر تحديث 2025/07/31 - 7:43 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 610 الشهر 21428 الكلي 11275039
الوقت الآن
الخميس 2025/7/31 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير