الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الارجوحـــــــــة

بواسطة azzaman

الارجوحـــــــــة

مهند الياس

        *

احست بما يشبه الضجر ، ينتابها وبحاول ان يشرنق ا حساسها ويرميها في ارض قاحلة جرداء ، وهي امرأة في الاربعين ، تطفح من جوانبها انوثة ناضجة ،تريد    ان تتشبث بالحياة .. انوثة تفيض في حالات المد والجزر وفي اوقات خاصة .. اوقات لا تعرف الهدوء والطمأنينة ، لذا فهي كثيرا ما تقاوم ذلك الضجر بالاتغمار بين نثار احلامها المهوسة والتي تشم من خلالها ابخرة الماضي العبقة ، المحملة بفضول متخمة بالحب والحنين والعذاب والانتظار !!

امامها تنعكس اشعة الشمس الساقطة في وقت ما بعد منتصف النهار من  النافذة القريبة منها ، والتي تطل على باحة البيت الواسع ، اذ تنتصب وسط الباحة شجرة التين الكبيرة المعمرة ، والتي تنفرش اغصانها المورقة من الاعلى ، حيث  تظلل الجدران ، والزوايا وابواب وعتبات الغرف الرطبة ، فيما تدلت من اعلاها ارجوحة بدت حبالها هادئة جدا.

تأوهت قليلا ، وهي تضطجع في حوض سريرها ، كما لو انها تذكرت شيئا ما .. واحست انها متعبة ، دارت بعينها باتجاه شجرة التين ، وجذعها الضخم الملتوي ذي اللحاء البني القاتم ، وحبلي الارجوحة المتدليين الهادئين ، اذ حط على اجدهما عصفور صغير ملون ثم ما لبت ان طار ، واختفى !

نهضت من سريرها بتثاقل ، كما لو انها بسبات ، ومطت تجاعيد وجهها  الذي ترهل قليلا ومسحت بكف كسولة جبينها ، ثم نظرت الى الساعة الصغيرة المركونة الى جانب سريرها ، وفوق طاولة تكدست عليها بعض من  المجلات المصرية القديمة ،، لم تعر اي اهتمام للزمن الذي يتحرك امامها اببطء ويسحب ايامها بحباللها اللعوبة نحو المجهول.

ازاحت الستارة قليلا عن النافذة ، فانغمرت الغرفة بالضوء الساطع ..  اقتربت بخطوات بطيئة ، وتوقفت امام المرا ة ، توجست وجهها ورفعت راسها نحو الاعلى ، حركت شفتيها المتيبستين ، ثم بدأت تغني بصوت خافت اغنية ترددها دائما ذلك انه قال لها ذات يوم ان صوتها جميل ـ، وانه يثير فيه احساسا خاصا :

(هل حقا صوتي جميل) ..؟!

(احسه يسيل في اعماقي ، صدقيني انني استسلم لصوتك ى، مثلما استسلم لحالة غامضة جدا ، احسها تسلبتي تماما !

وراحت تصغي الى عيتيه البريئتين الصافيتين وتغور فيهما وهي تطفح باحلام بعيدة ، وكلما حاولت ان تنبس بكلمة واحدة تحس بان ثمة شيء يكتم انفاسها وبلجم مشاعرها الجامحة المتدفقة.

فتبدو في حالة خاصة ، حالة من الخضوع الى ماهو قلق ومخيف ، لكنه عندما يمرر اصابعه بين خصلات شعرها الفاحم الناعم تستكين فلا تفكر الا باللخظات !

تذكر انه قال لها ذات مرة :

(اذا احسست بالوحدة والضجر اجلسي على هذه الارجوحة وطوحي بتفسك بقوة .. ثم غني بصوت عال ذات الاغنيثة التي احببناها سوية) !

وذات مساء جميل ، وقتها كان المطر قد توقف تماما تاركا للسماء لون هضيم ، وكلما تحركت الريح قليلا ، تساقطت في الحال اوراق التين  ، حتى كادت الاوراق تغطي نصف البيت ، وهي صفراء رطبة  ، ووجدت نفسها تجلس معه قالت له:

( لا احد يمنحني الطمأنينة الا انت ، لعنة الله على الحروب)!

اجابها:

( نحن ضحاياها الابرياء)!

تأوهت بحرقة ، وافرغت ما في داخلها من رماد ، ومسدت شعرها باضابع مرتبكة ، تظرت اليه بعينين متفائلتين ، واحتوت طلعته باشتياق دافيء وعذب لا مثيل له ، وهي تجلس بجانبه ، احست بانها امتلكت كل شيء ، وحلقت بعيدا مثل فراشة طليقة نزقة ، واستسلمت لطفح عارم يحتاحها لا تعرف سره ، طفح من  ذلك لاحساس البريء ، وحاولت ان تمسح دمعة ارادت ان تطفر من  عينيها الزرقاويين ، لكنها فشلت فسالت الدمعة مكونة خطا ملتويا متعرجا على حدها المتورد ، وطوحت نفسها ببطء ، ثم مالبثت ان وجدن نفسها نرتفع الى الاعلى وتنخفض وهي تسبح في بركة حلم لا يطاق ، ويداها تمسكان بطرفي  حبل الارجوحة الخشنة الرطبة ، ولا تأبه باي شيء ، اذ بدت اوراق التين تتساقط بكثرة فتتناثر هنا ، وهناك ، وقد بدت اشباكة الاغصان من الاعلى نصف عارية

وهي ملتذة بذلك الدفء الذي يسري في اوصالها ، دفئا شفافا طريا لا نهاية له ..اذ راحت تغني بصوت هاديء ، لكن صو تها بدأ يرتفع شيئا فشيئا !

( مالي شغل بالسوك .. مريت اشوفك .. عطشان حفنه سنين واروى على شوفك)

.. وارنفع صوتها اكثر ، وراح ينداح صداه عبر جدران البيت ، ثم يرجع من بين زوايا الغرف الموصودة .. اذ ان صوتها بدأ اجش وفيه نبرة حزينة ممزوجة بفرح غامر ،، ولكن للجظات بدأت الارجوحة حبالها تهدا شيئا فشيئا ، واحست  بشيء يغامرها ، ويشاكس مشاعرها ، اذ توقفت الارجوحة عن الحركة ،، وتوقفت هي عن الغناء ، وساد صمت ، صمت يريد ان ينبلج منه شيئا ، ودبت فيها حا لة مباغتة ، لم تالفها من قبل ، بينما لازالت يديها تمسك بحبلي الارجوحة  من الاعلى مثل دمية مصلوبة وهي تنظر الى شيء ما لا تعرف سره ، والصمت من حولها يتحرك بشيء مثير ، كل شيء صامت ، لكنه يصخب بايقاع خفي ، وارادت ان تصرخ من اعماقها بقوة ،وصرخت .. لكن الصرخة انفحرت داخل  اعماقها الخاوية المتعبة ، مثل صرخة غريق يريد ان تبتلعه موجة كاسحة  عارمة ،وحولت نظراتها المشبعة ببريق جاف والمبتلة بماء ينبع نت مسايل احلامها المضببة ، وضعت وجهها بين كفيها الطريتين والتي تركت خشونة الحبلين فيهما احمرارا واضحا وحاولت ان تطرد من عينيها كابوسا رسمته هموم  الذكريات والتي تناثر رذاذها مثلما تتناثر اوراق شجرة التين ، فوجدت ان بركانها سينقجر ، ولم تعد ترد غليانه فضمت وجهها بين كفيها ثانية وانفجرت بالبكاء ،  كان صوتها وهي تبكي اجمل ما ترسمه صورة من صور الحزن ، انه صوت متخم بالحنان والحب والالم والفراق.

استبدت ريح ، داعبت بقوة ماتبقى من اوراق يابسة كانت معلقة في  اغصان شجرة التين ، فتناثرت الاوراق من جديد وغطت البيت بالكامل مثل كرنفال خريفي باهر، ولما رفعت راسها قليلا ببطء ، وهي تخشى ان تكون في حالة من الهوس والخيال ،، نظرت البه وهي لم تصدق ان حلما كهذا يداعب مخيلتها بطريقة مرة وهل هي تحلم .. اذ ان عليها ان تنصاع وتكون في خضوع لاحساسها المتشتت ،، وصاحت ولكن بصوت مخنو ق تماما :

( ... حافظ ... حافظ )...!!

لم يتحرك الرجل الذي يقف امامها ، بقيت اساريره تتسربل فيها  ابتسا متة المعتادة.. ولما خطى نحوها واقترب ، توقف ، وهي تقف امامه كتمثال يتحرك بصخب .. تنظر اليه غير مصدقة ، منبهرة تسبح احلامها بين الخيال والا خيال

وللحظة ... بدأت السماء تنث بقطرات من المطر الدافيء ..!!

 


مشاهدات 188
الكاتب مهند الياس
أضيف 2025/03/26 - 3:21 PM
آخر تحديث 2025/03/30 - 10:40 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 349 الشهر 18668 الكلي 10579617
الوقت الآن
الأحد 2025/3/30 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير