بلغ التوتر عندي أقصاه وأنا أعلق في زحام السيارات، أقود من البيت على غير هدى. زاد توتري نسياني لقنينة الماء التي تلازمني في مثل هذه الحالات، فأنا أحتاجها لتناول حبة دواء ضغط الدم أو حتى واحدة للطوارئ لخفض التوتر، وكذلك لترطيب فمي من الجفاف الذي يسببه القلق.
كان طابور السيارات طويلاً وثابتاً لا يتحرك، فيأخذ المراهقون والشباب المتعجلون وغيرهم في رفع زمامير سياراتهم. أخذت بالشهيق والزفير العميقين لعل ذلك يفيدني، ثم رفعت صوت المسجلة وهي تدور على قرص لأغاني نجاة الصغيرة. كانت مصادفة أن أسمع إحدى أغانيها في نفس المكان الذي وقفت فيه لأول مرة قبل أكثر من أربعين سنة. حاولت أن أفرغ شحنة توتري في تلك الأغنية، محدثاً نفسي: هذا ليس اختناقاً مرورياً، كل ما في الأمر أنك على حالك منذ خمسين سنة، تقف مكانك بأدب وامتثال، وتظن أن الآخرين واقفون أيضاً، فيما هم محلقون بعيداً في عالم آخر غير عالمك البائس.
لم ينجح الأمر. تصاعدت روحي لتتقمص شخصية بطل رواية خاتم الرمل لفؤاد التكرلي، ذلك الذي يجوب شوارع بغداد بسيارته مبتدئاً من حي الحارثية. لكن أين بغداد خاتم الرمل من بغداد مدينة التراب والغبار الحالية؟ كدت أترك السيارة وأهرب من الزحام وكل شيء، لكني تذكرت بطل رواية ميرامار لنجيب محفوظ وهو يقود سيارته صارخاً: “فريكيكو.. لا تلمني!” أغلقت زجاج النوافذ بإحكام وصرخت بكل قوة يأسي: “فريكيكو.. لا تلمني!”.
أمام سيارتي كانت سيارة أجرة نيسان صفراء، خرج سائقها الخمسيني مستغلاً وقوف الطابور الطويل، فتح صندوقها وأخرج مجموعة عبوات ماء بلاستيكية صغيرة. اعتقدت لوهلة أنه سمعني وفهمها على أنها “افتح يا سمسم”، لكنه أخذ ثلاث أو أربع عبوات وعاد بها إلى سيارته، موزعاً إياها على ركابه، الذين بدا أنهم عائلته. قلت في نفسي: ضاعت فرصتي.
عاد مرة أخرى وأخرج عبوتين، ففتحت باب السيارة مناشداً: “قليلاً من الماء بثواب أمواتك.” نظر إلي وقدّم لي عبوة، وكأنه كان ينتظر هذا الطلب أو مكلف به. فتحت غطاءها وارتشفت نصفها دفعة واحدة. تحسن كل شيء، هدأت وخفّ توتري، بل وتحول إلى مرح، حتى أن طابور السيارات بدأ بالحركة، فخال لي أنه يرقص. ضحكت بامتنان، شكراً فريكيكو!.
يقال إن “فريكيكو” ابتكرها نجيب محفوظ في روايته ميرامار، ويتهمه البعض بأنه اقتبسها، كما اقتبس الرواية، من جسر الموت للكاتب الأمريكي ثورنتون وايلدر (1897-1975). وفريكيكو عند محفوظ تعني “الفهلوي، الحرك، وبتوع كله”.