الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
فريكيكو‭.. ‬لا‭ ‬تلمني

بواسطة azzaman

فريكيكو‭.. ‬لا‭ ‬تلمني

كامل عبدالرحيم

 

‭ ‬بلغ‭ ‬التوتر‭ ‬عندي‭ ‬أقصاه‭ ‬وأنا‭ ‬أعلق‭ ‬في‭ ‬زحام‭ ‬السيارات،‭ ‬أقود‭ ‬من‭ ‬البيت‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬هدى‭. ‬زاد‭ ‬توتري‭ ‬نسياني‭ ‬لقنينة‭ ‬الماء‭ ‬التي‭ ‬تلازمني‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الحالات،‭ ‬فأنا‭ ‬أحتاجها‭ ‬لتناول‭ ‬حبة‭ ‬دواء‭ ‬ضغط‭ ‬الدم‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬واحدة‭ ‬للطوارئ‭ ‬لخفض‭ ‬التوتر،‭ ‬وكذلك‭ ‬لترطيب‭ ‬فمي‭ ‬من‭ ‬الجفاف‭ ‬الذي‭ ‬يسببه‭ ‬القلق‭.‬

كان‭ ‬طابور‭ ‬السيارات‭ ‬طويلاً‭ ‬وثابتاً‭ ‬لا‭ ‬يتحرك،‭ ‬فيأخذ‭ ‬المراهقون‭ ‬والشباب‭ ‬المتعجلون‭ ‬وغيرهم‭ ‬في‭ ‬رفع‭ ‬زمامير‭ ‬سياراتهم‭. ‬أخذت‭ ‬بالشهيق‭ ‬والزفير‭ ‬العميقين‭ ‬لعل‭ ‬ذلك‭ ‬يفيدني،‭ ‬ثم‭ ‬رفعت‭ ‬صوت‭ ‬المسجلة‭ ‬وهي‭ ‬تدور‭ ‬على‭ ‬قرص‭ ‬لأغاني‭ ‬نجاة‭ ‬الصغيرة‭. ‬كانت‭ ‬مصادفة‭ ‬أن‭ ‬أسمع‭ ‬إحدى‭ ‬أغانيها‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬وقفت‭ ‬فيه‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬قبل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أربعين‭ ‬سنة‭. ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬أفرغ‭ ‬شحنة‭ ‬توتري‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأغنية،‭ ‬محدثاً‭ ‬نفسي‭: ‬هذا‭ ‬ليس‭ ‬اختناقاً‭ ‬مرورياً،‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬أنك‭ ‬على‭ ‬حالك‭ ‬منذ‭ ‬خمسين‭ ‬سنة،‭ ‬تقف‭ ‬مكانك‭ ‬بأدب‭ ‬وامتثال،‭ ‬وتظن‭ ‬أن‭ ‬الآخرين‭ ‬واقفون‭ ‬أيضاً،‭ ‬فيما‭ ‬هم‭ ‬محلقون‭ ‬بعيداً‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬آخر‭ ‬غير‭ ‬عالمك‭ ‬البائس‭.‬

لم‭ ‬ينجح‭ ‬الأمر‭. ‬تصاعدت‭ ‬روحي‭ ‬لتتقمص‭ ‬شخصية‭ ‬بطل‭ ‬رواية‭ ‬خاتم‭ ‬الرمل‭ ‬لفؤاد‭ ‬التكرلي،‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬يجوب‭ ‬شوارع‭ ‬بغداد‭ ‬بسيارته‭ ‬مبتدئاً‭ ‬من‭ ‬حي‭ ‬الحارثية‭. ‬لكن‭ ‬أين‭ ‬بغداد‭ ‬خاتم‭ ‬الرمل‭ ‬من‭ ‬بغداد‭ ‬مدينة‭ ‬التراب‭ ‬والغبار‭ ‬الحالية؟‭ ‬كدت‭ ‬أترك‭ ‬السيارة‭ ‬وأهرب‭ ‬من‭ ‬الزحام‭ ‬وكل‭ ‬شيء،‭ ‬لكني‭ ‬تذكرت‭ ‬بطل‭ ‬رواية‭ ‬ميرامار‭ ‬لنجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬وهو‭ ‬يقود‭ ‬سيارته‭ ‬صارخاً‭: “‬فريكيكو‭.. ‬لا‭ ‬تلمني‭!” ‬أغلقت‭ ‬زجاج‭ ‬النوافذ‭ ‬بإحكام‭ ‬وصرخت‭ ‬بكل‭ ‬قوة‭ ‬يأسي‭: “‬فريكيكو‭.. ‬لا‭ ‬تلمني‭!”.‬

أمام‭ ‬سيارتي‭ ‬كانت‭ ‬سيارة‭ ‬أجرة‭ ‬نيسان‭ ‬صفراء،‭ ‬خرج‭ ‬سائقها‭ ‬الخمسيني‭ ‬مستغلاً‭ ‬وقوف‭ ‬الطابور‭ ‬الطويل،‭ ‬فتح‭ ‬صندوقها‭ ‬وأخرج‭ ‬مجموعة‭ ‬عبوات‭ ‬ماء‭ ‬بلاستيكية‭ ‬صغيرة‭. ‬اعتقدت‭ ‬لوهلة‭ ‬أنه‭ ‬سمعني‭ ‬وفهمها‭ ‬على‭ ‬أنها‭ “‬افتح‭ ‬يا‭ ‬سمسم‭”‬،‭ ‬لكنه‭ ‬أخذ‭ ‬ثلاث‭ ‬أو‭ ‬أربع‭ ‬عبوات‭ ‬وعاد‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬سيارته،‭ ‬موزعاً‭ ‬إياها‭ ‬على‭ ‬ركابه،‭ ‬الذين‭ ‬بدا‭ ‬أنهم‭ ‬عائلته‭. ‬قلت‭ ‬في‭ ‬نفسي‭: ‬ضاعت‭ ‬فرصتي‭.‬

عاد‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬وأخرج‭ ‬عبوتين،‭ ‬ففتحت‭ ‬باب‭ ‬السيارة‭ ‬مناشداً‭: “‬قليلاً‭ ‬من‭ ‬الماء‭ ‬بثواب‭ ‬أمواتك‭.” ‬نظر‭ ‬إلي‭ ‬وقدّم‭ ‬لي‭ ‬عبوة،‭ ‬وكأنه‭ ‬كان‭ ‬ينتظر‭ ‬هذا‭ ‬الطلب‭ ‬أو‭ ‬مكلف‭ ‬به‭. ‬فتحت‭ ‬غطاءها‭ ‬وارتشفت‭ ‬نصفها‭ ‬دفعة‭ ‬واحدة‭. ‬تحسن‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬هدأت‭ ‬وخفّ‭ ‬توتري،‭ ‬بل‭ ‬وتحول‭ ‬إلى‭ ‬مرح،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬طابور‭ ‬السيارات‭ ‬بدأ‭ ‬بالحركة،‭ ‬فخال‭ ‬لي‭ ‬أنه‭ ‬يرقص‭. ‬ضحكت‭ ‬بامتنان،‭ ‬شكراً‭ ‬فريكيكو‭!.‬

‭ ‬يقال‭ ‬إن‭ “‬فريكيكو‭” ‬ابتكرها‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬في‭ ‬روايته‭ ‬ميرامار،‭ ‬ويتهمه‭ ‬البعض‭ ‬بأنه‭ ‬اقتبسها،‭ ‬كما‭ ‬اقتبس‭ ‬الرواية،‭ ‬من‭ ‬جسر‭ ‬الموت‭ ‬للكاتب‭ ‬الأمريكي‭ ‬ثورنتون‭ ‬وايلدر‭ (‬1897-1975‭). ‬وفريكيكو‭ ‬عند‭ ‬محفوظ‭ ‬تعني‭ “‬الفهلوي،‭ ‬الحرك،‭ ‬وبتوع‭ ‬كله‭”.‬


مشاهدات 95
الكاتب كامل عبدالرحيم
أضيف 2025/02/14 - 11:52 PM
آخر تحديث 2025/02/19 - 6:03 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 215 الشهر 10277 الكلي 10405648
الوقت الآن
الأربعاء 2025/2/19 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير