القيادةُ في زمن الإلغاء
منتصر صباح الحسناوي
كنَّا نسمعُ أنَّ كلماتِ النضال والفكرِ والتجربة طريقٌ للمنصب.
أما اليوم، فلا يكفي ذلك ما لم يكن لك موطئُ كلمةٍ في فضاءٍ يعجّ بالصوت والصورة والتعليق الفوري.
تغيَّر الزمن، وصارت القيادة مرئيةً على مدار اللحظة، مستدعَاة باستمرار لتُختبر كل يوم في مشهد متسارع تُبنى فيه المواقف وتُهدَم في أقلِّ من دقيقة.
هذا التحوّل اقتحم العالم وفُرِض كواقعٍ لا يمكن إغفاله، فمواقع التواصل باتت ساحةً ينعكس فيها مزاجُ الناس وتتحوّل فيها الشائعات إلى قناعات وباتت محيطاً يفرضُ إيقاعه ومَن يتجاهله يفقدُ زمامَ المبادرة، على الرغم من أنها ليست بديلاً عن العمل الحقيقي.
نيّةً صالحة
تكمنُ الخطورةُ في منشورٍ غيرِ محسوب قد ينسفُ صورةً بُنيت في الواقع لسنوات وردٍّ متسرّع قد يحوّل نيّةً صالحةً إلى أزمةٍ غير مبررة، والقائد الذي يتأخرُ في شرحِ موقفه يترك الساحة لخصومه أو لزحام التأويلات.
هكذا وجدَ كثيرٌ من المسؤولين أنفسهم رهائن لمنشورات قُدّمت على غيرِ ما أرادوا أو اقتُطعت من سياقها أو أُعيد نشرها في لحظة مختلفة تماماً.
في هذا المناخ، برزت ظاهرة “ثقافة الإلغاء”، وهي حالةٌ شعبيةٌ متأهبة تُصدر أحكامها سريعاً من دون الخضوع لأي قانون أو قرار إداري، لتطالب بعزل الأشخاص بسبب رأيٍ سابق أو موقفٍ شائك أو تصريح أُسيء فهمه.
ومن السهل أن تنتقل هذه الحالة من النقد إلى الضغط ومن الضغط إلى التهديد بالسمعة والمكانة والثقة.
وقد سقط في فخّها سياسيون ومديرون وفنانون ومثقفون.
بعضهم ارتكب خطأً حقيقياً وبعضهم لم يُتح له حتى حق التوضيح.القيادة في هذا العصر تتطلبُ القدرةَ على قولِ الأشياء بتوقيتِ قولها الصحيح، وطريقة عرضها، ومدى فهم الجمهور لها. ولم تعد الأخلاقيات القيادية تقتصر ُعلى خطابٍ يذكرُ في المؤتمرات، أو المناسبات الرسمية، هو الآن أشبه بامتحانٍ عمليٍّ دائمٍ يخضعُ لمراقبةٍ علنية صارمة.
الناس تريدُ قادةً يعرفون كيف يتعاملون مع الواقع لكنّهم أيضاً لا يقبلون أن يكون القائد غائباً عن قلقهم اليوميّ أو مغلقاً على نفسه في برجٍ إداريّ لا يرى فيه إلا الملّفات والأرقام.
وهنا تظهر معادلةٌ دقيقة مفادها: كيف يمكن للقائد أن يبقى فاعلاً في الواقع، مُنجزاً في الميدان، دون أن يكون غائباً عن وعي الناس؟
وكيف يمكنهُ أن يحمي تجربته من اجتزاءات التواصل السريعة، دون أن يتورّط في استعراضٍ يُضعف هيبته أو يُفقده وقاره؟
الجواب، يكمنُ في صياغة نمط تواصل ناضج، صادق، ومتوازن، يُبقي الجمهور مطّلعاً من غير أن يجعل القائد أسيراً له بعيداً عن الانكفاء أو الاستعراض الفارغ.
ثقة طويلة
الحصانةُ التي يتمناها القائد لم تعد متحققه بالصمت، ولا بالحسابات المغلقة لكن يمكن أن تُبنى بالثقة الطويلة والمواقف المتماسكة البعيدة عن ردّات الفعل الآنية والتواصل الذي لا يتنازل عن الوقار.
وهنا ، لا غنى عن فريق يتقنُ فهمَ الرأي العام، يفهمُ ويراقبُ التقاطعاتِ الرقمية وينبّه إلى المخاطر قبل أن تتحوّل إلى أزمات.
فالقيادةُ اليوم مسؤولية على الأرض، لكنها تُقاس أيضاً بدرجة حضورها في وعي الناس وقدرتها على حماية إنجازاتها من التلاشي في زحام الفضاء المفتوح وهذا يحتاج كذلك إلى إدراة ٍفنيةٍ إعلامية تنسجم ُمع الواقع والافتراض.
قد تبدو ثقافة ُ الإلغاء سيفاً مرفوعاً في وجه كل صاحبِ قرار، لكنّها في جوهرها دعوةٌ مفتوحة لتطوير أدوات القيادة وتجديد اللغة والتمسك بالصدق لا بالمثالية الزائفة.
فالجمهور، وإن بدا قاسياً في لحظاتٍ فأنه لا يطلب الكمال بقدر ما يريد من القائد أن يكون واضحاً، صادقاً، قادراً على الإصغاء، ومهيّأً لأن يتغيّر حين تفرض الحقيقة ذلك.
القيادة اليوم مسؤولية تتشكلُ في العَلن، وتُقاس بالقدرة على الثبات وسط انفعالات الناس وسرعة الزمن. ومن لا يُحسن الإصغاء والتصرف بثقةٍ وتوضيح موقعه كلما تضببت الرؤية… لن يكون لهُ مكان في الوعي العام مهما بلغت خبرته أو صلابة منصبه.
إنه زمن #ثقافة_الإلغاء.