الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
حین تفتح واشنطن باباً أكبر من القنصلیة

بواسطة azzaman

حین تفتح واشنطن باباً أكبر من القنصلیة

عطا شميراني

 

في الشرق الأوسط، لا تُفتح القنصليات كما تُفتح الدكاكين. كلّ بابٍ دبلوماسيّ هنا هو إعلان مرحلة، ورسم لمعادلة، وإعادة هندسة لخريطة لا تستقرّ إلا لتتغيّر. واليوم، حين افتتحت الولايات المتحدة أكبر قنصلية لها في العالم داخل أربيل، لم يكن الحدث مجرّد توسعة إداريّة… بل إشعارًا سياسيًا يضرب في عمق التاريخ والجغرافيا معًا.

لماذا أربيل؟ ولماذا الآن؟

أربيل ليست مدينة عابرة في حسابات واشنطن؛ إنها نقطة التوازن الوحيدة في منطقة تتقاذفها الأمواج. فمنذ سقوط الإمبراطورية العثمانية وتقاسم إرثها، حافظ إقليم كردستان على معادلة فريدة: منطقة داخل دولة، لكنها تحظى بشرعية دولية تفوق شرعية بغداد في محطات كثيرة. ومَن يفهم تاريخ العلاقات الأمريكية في المنطقة، يدرك أن واشنطن لا تراهن على العواطف بل على “الجزر الآمنة” التي يمكن أن تبني عليها مشروعها الأكبر.واشنطن تدرك أن بغداد — بواقعها السياسي الهشّ وتنازع مراكز القوة فيها — ليست قادرة على لعب دور الشريك المستقر. بينما أربيل — رغم كل مشاكلها الداخلية — أثبتت خلال ثلاثة عقود أنها قادرة على الاستمرار، وأنها “نقطة ارتكاز” يمكن أن تُبنى عليها سياسات بعيدة المدى.دلالات الحدث… أبعد من البناء افتتاح أكبر قنصلية في أربيل يحمل ثلاثة رسائل كبرى:

أولًا: رسالـة إلى بغداد

واشنطن تقول بوضوح:“الشراكة ليست حكرًا على العواصم.”

وإنّ قوة الإقليم في الاستقرار والأمن والعلاقات الدولية باتت تضاهي — بل تتفوّق — على الكثير من دول المنطقة.إنها إشارة إلى أنّ أربيل صارت “باب واشنطن” إلى العراق، لا العكس.

ثانيًا: رسالة إلى طهران

الرسالة الأمريكية الكلاسيكية:

لن يُترك شمال العراق ورقةً سهلة في يد نفوذكم.القنصلية ليست مبنى، بل قاعدة سياسية ـ أمنية ـ استخبارية متكاملة.

إنها ليست ضد إيران مباشرة، لكنها ضد فكرة “الفراغ” التي تستغلها إيران في كل مكان.

ثالثًا: رسالة إلى الكرد أنفسهم

واشنطن تقول:

إذا كنتم مشروعًا، نحن معكم… وإذا بقيتم انقسامًا، سنبقى متفرّجين.

أكبر قنصلية في العالم ليست هدية، بل فرصة.الولايات المتحدة تراهن على مكان يعرف نفسه، لا مكان يبحث عن نفسه.بين التاريخ والجغرافيا… ما الذي تغيّر؟

منذ معاهدة سايكس ـ بيكو، كان الكرد دائمًا على هامش الخرائط.

لكن في السنوات الأخيرة حدث تحوّل جوهري:

الجغرافيا الكردية بدأت تفرض نفسها كفاعل، لا كفراغ.

أربيل تحوّلت إلى نقطة تلتقي فيها مصالح القوى الكبرى:

موقع يربط تركيا بالخليج منطقة بعيدة عن صراع المذاهب منفذ اقتصادي ضخم

حليف موثوق في مكافحة الإرهاب وإرث سياسي يريد – رغم كل عثراته – أن يبني دولة داخل دولةلهذا بالضبط، اختارت واشنطن أن تفتح أكبر قنصلية لها هنا، لا في بغداد ولا في أنقرة ولا في عمّان.

أربيل… من مدينة إلى معادلة

القنصلية الجديدة ليست مجرد مبنى ضخم يُضاف إلى عمر المدينة؛

إنها إعلان غير مكتوب بأن أربيل أصبحت رأس جسرٍ لمشروع أمريكي طويل المدى:

مشروع يقوم على:

خلق نقطة نفوذ ثابتة

حماية خطوط الطاقة

مراقبة التغيرات الإقليمية

موازنة التأثير الإيراني

الاحتفاظ بحليف مستقر في قلب أكثر منطقة مضطربة في العالم

ولكن الأهم، أنها بمثابة “اختبار” للكرد:

هل يستطيعون الاستفادة من هذه اللحظة كما استفادوا من لحظات 1991 و2003؟

أم سيضيع الفرصة كالعادة بسبب الانقسام الداخلي؟

الخاتمة: لحظة ليست عابرة

افتتاح أكبر قنصلية أمريكية في أربيل هو صفحة جديدة في العلاقة بين الكرد والولايات المتحدة؛

صفحة تقول إن الجغرافيا الكردية ما عادت مجرد هامش على خريطة الشرق الأوسط،

بل صارت منصة تُصنع عليها السياسات.

ويبقى السؤال الذي يحدّد المستقبل:

هل تتحوّل أربيل من محطة تستفيد من القوى الكبرى… إلى قوة كبرى تحتاج إليها المحطات؟

هذا ما ستُجيب عنه السنوات القادمة، لا التصريحات الرسمية.

 


مشاهدات 42
الكاتب عطا شميراني
أضيف 2025/12/14 - 4:01 PM
آخر تحديث 2025/12/14 - 11:34 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 703 الشهر 10556 الكلي 12994461
الوقت الآن
الأحد 2025/12/14 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير