فضاءٌ تركي
نجمان ياسين
نصفُ سماءِ قصَيةِ معي ،
ونصفُ سماءٍ دانيةِ ،
نصفان أنا ،
نصفٌ يذوبُ في حنين الموج ،
ونصفٌ مسكونٌ بجحيم بلدي الذبيح ،
أنقسمُ على نفسي ،
وأذوي في سحر الجُزر الهائمة ،
هائماً ، في سماء من زغَبٍ ودمع ،
وموجٍ شاسع مثل الحُب ،
أرتمي بين أحضان - البسفور –
فرحٌ ناقصٌ يدهمُني ،
وحلمٌ مبتورٌ يُطوقُني ،
الزرقَةُ أمامي ، والدماءُ ورائي ،
ألتمُ على روحي ،
وأرممُ ما تمزقَ من جُدران قلبي ،
وأصرخ :
-الهي ، إحفظني من هذا الحنين الذي يجرِفُني ،
ويأخذني مني !
-2-
أغصُ بلهيبي ،
رمادٌ ينسكبُ من ثقوب قلبي ،
وفردوسٌ يأسُرُني ،
ويغمُرُني ، بنورٍ ماسه ،
ونجوم سمائه ،
وسعيرٌ يشدُني إلى فَكِ النار التي تترصدُني في بلادي ،
وتتربصُ كي تنهشَ روحي !
-3-
قلبي الطليق ،
أمسك بشجرةِ روحي ،
هز أغصانها ،
فتناثر الرمادُ
والسخام،
وارتمى الأسود تحت ازرق سمائي!
-4-
روحي فيضٌ علاهُ سخامٌ
وندم .
أنفضُ قميصَ روحي ،
فيمنحني ((البسفورُ) الرؤوم ،
ألقيْ وحريقي !
-5-
هلالٌ يبزغ ، وشمسٌِ لم تأفلْ بعدُ ،
اجتمعا سويةً .
لينثرا النور في سماء الدنيا
وفضة المياه ،
وانت ! كُتِبَ عليكَ أن تغادِرَ ظلامَ زنزانةِ المعتقل .
وأن تعيشَ هذا الفرحَ الإلهي ،
وتتوحدَ بنارِ ونورِ الموجِ المندفعِ نحو المصباتِ الرائقات !
-6-
قبةٌ تعلو قبة ،
منارات ومآذن ،
وصوتُ الله يملأ سماءَ وبحرَ استانبول ،
ويَدسُ البَرَكَةَ في ضروع أرضِها السَخيَة ،
الملائكةُ تنهضُ من روحِ البحر ،
وتضمُ السمواتِ والأرضَ ،
تهبُنا بُراقَ الروحِ الموغلِ في ذهبِ الموج ،
وتسريْ بنا إلينا .
-7-
ريشةٌ في جناحِ نورس ،
هذه الروحُ السكرى بخمر ((البسفور)) .
-8-
يا ناظم حكمت :
عندَ رصيفِ ((البسفور)) ،
أبصرتُ الصيّادَ يُخرِجُ رِزقهُ من فَكِ البحر ،
ليُقدِمهُ الشوّاءُ ، ساخناً سُخونةَ رغيفِ الخبز ،
وعرفتُ سرّ حُبَّكَ لأبناءِ بلدك !
يا ناظم حكمت :
عِشتَ مُتحسراً على – منور- حتى آخر قطرات عمركِ الشقي ،
ترى ، أين أنت الآن من – منور- ؟!
الآن أذكُرُكَ ، وأتذَكرُ - كريم الذي باحَ باسم محبوبتِه ،
واحترق بنيران عشقه !
يا ناظم حكمت :
الصبايا عندَ الأشجارِ ،
والشيوخ الخاشعون بينَ يدي الله ،
المريدون في الحَلقَات ،
ونفائسُ المخطوطاتِ تكتنز النورَ في المكتبات ،
البحرُ والأزهار
والسماءُ الرحيبة ، والمياهُ الوفيرة ،
وأغنيةُ الجذورِ التي تحكي أصالةَ بلدك ،
وكُلُ هذه المآذن التي تتناسلُ عن مآذن ،
والقباب التي تنبثق عن قباب ،
جَعَلتني أدرك لماذا أفنيتَ نفسَكَ في حُب بَلدتِكَ الجميلةِ ،
إستانبول !
-9-
إستانبول
تمنحينَ الضوءَ للنجوم ،
والعطرَ للوردةِ ،
وتسترخينَ بين أحضانِ أجمل البحار،
فلماذا بخلتِ بالحب على - ناظم حكمت - وشَرّدتِه في المنافي؟!
-10-
هذا الجبلُ نسرٌ يُحَلَّقُ في السماءِ ،
وبيوتُ الفُقراء تحتضنُ حجارته المشرئبة ،
نحو أفقِ لا ينتهي !
-11-
في ((جزيرة الأميرات)) ،
يَصدحُ صوتُ المؤذن ، (( الله أكبر)) : كريستالٌ يتوهجُ في سماءِ البحر ،
وماسٌ يُتوِّجُ الجبال ،
ويبُرق بالأمل !
-12-
الصبيةُ التركيةُ ، لها حجمُ فراشة ،
تشبهُ القُبلة ، أو هي القُبلة ،
يدُها أصغرُ من يدِ طفلةِ لم تُدركْ بعدُ ،
بدأتْ البكاءَ ، فتبللَت ملابُسها البيضاء ،
ودفعتْ بيدها صدرَ فتاها ،
وأشاحتْ بوجهِها المحزون ،
والفتى مذهولٌ ، محزونٌ هو الآخر ، ومرتبكٌ ،
تناولَ يدها ، ناغي نبضَها ، وَلثمهَا ،
ووضعها عند قلبه ،
فأشرق وجه الصبية،
وأضاءهُ العشق !
-13-
نجمة من دمْ في سماء - قونية -
أهدَتنا مفاتيحَ السموات ،
ونداءَ حرائقِ الحضورِ والغياب ،
نجمة ، أوقفَتنا بينَ يَدي فيضِ الكشف ،
وجعلتنا نبصُر .
روحَ - جلال الدين الرومي - ترِفٌ .
وتمضي بنا إلى عتبة الوصول والإشراق !
-14-
في هذا الصباح الرَهيف .
خيمةٌ خضراء تَحرسُ قلبي ،
تتراقصُ تحت جناحِ من أزرق سماء - أنقرة -
ودمُ الشجر ، وهجٌ يضيءُ بالحُبور ،
كُلُ هذا البهاءُ بين يديّ ،
وكُلُ هذهِ الفتنة تومىءُ إليّ،
وتسلمني إلى ينبوعِ فجرِ يأخذُني إلى نهر طفولتي ،
جسدّ أنا ، سرقتهُ موسيقى الأشجار المترعة بالشجن ،
وروحٌ أنا ، عافَتَ قَفَصَ الجسد ،
كسّرَتْ قضبانَ وساوِسي ،
ورَمْتني في دنيا طفولتي الضاجة بالنزوات .
والمسَراتِ والأمنيات !
في هذا الصباح الندي بشدو العنادل .
يَهبطُ طائرُ طُفولتي ،
يحَتضِنُ خَيمةَ الأخضر ، ويُغرِدُ عندَ دمِ الشجر ،
يسريْ بي إلى زمني الهارب مني
ونهري الغريب ،
ويعيد إليّ شقائي ووسامتي ،
وبراءتي المتناثرة في الطرقات ،
يُهديني صفائي الذي كدّره غبار السنوات الثقيلات ،
الله في قلبي الآن .
وأنا أنتفضُ من سُباتي .
يشهق فؤادي .
واغادرُ سُخامَ ، وصدأ أوقاتي ،
أرنو إلى طائر طفولتي ،
وأبصرُ الأبيضَ ، والأخضرَ ، والأزرق ،
ينهمرُ على قلبي .
ويغسلُ روحي المشرقةَ بنورِ الصبوات
إستانبول - أنقرة
أديب عراقي
رئيس أسبق للإتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق