الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
طردُ الدبلوماسيين.. تجربة شخصية

بواسطة azzaman

طردُ الدبلوماسيين.. تجربة شخصية

خطاب السادات في الكنيست أدّى الى غضب عربيّ

مليح صالح شكر

 

  مع كثرة حالات إبعاد السفراء والدبلوماسيين بين الدول هذه الأيام ، تذكّرتُ  تفاصيل تجربتي الشخصية في الإِبعاد قبل أربعين عاماً ، من الدولة التي كنتُ أعمل فيها بصفتي الصحفية .

   في 19 تشرين الثاني / نوفمبر عام 1977 قام الرئيس المصري أنور السادات بزيارة إسرائيل، وألقى خطاباً في الكنيست اعترفَ فيه ضمناً بإسرائيل .

    ولا أقول إنَّ الوطن العربي قد انقسم الى قسمين نتيجة هذه الزيارة ، بل إنَّ غالبية الدول العربية كانت ضدها ، وقطعت دول عربية ، بينها العراق علاقاتها الدبلوماسية مع مصر.

 وكنتُ قد أصبحت مديراً مؤقتاً لمكتب وكالة الأنباء العراقية بالقاهرة بعد أن أَبعدت السلطات المصرية مدير المكتب مراد ابراهيم ، قبلنا بأيام ، مع السفير نوري الويس والدبلوماسيين العراقيين، وأصبح صائب الفرحان قائماً بالأعمال خلفاً للسفير الويس ، وكان يسكن على مقربة من سكناي، وهو من عائلة بصراوية أصلُها يعود الى قضاء عنه بمحافظة الأنبار وقد ذهبتُ إليهِ لمعرفة آخر التعليمات بصدد قطع العلاقات.

 وكان معاذ عبد الرحيم معاون المدير العام للوكالة قد أرسل لي من بغداد مذكرةً رسميةً على أجهزة التيكر يكلّفني فيها بإدارة المكتب ، وفي الوقت نفسه تجهيز الأمور لما هو أسوأ.

    كنّا أربعة عراقيين في مكتب (واع)، في  الطابق الأول لعمارة بشارع المرعشلي بالزمالك :

مليح ابراهيم صالح شكر

هشام رشيد حويش

باهر داود نيازي

نزهت اسماعيل السامرائي

   وهنالك أيضا ًعددٌ من المستخدمين المصريين .

   وبعد عدة أيام من الزيارة ، وتحديداً في صباح الثاني من ديسمبر/ كانون الأول عام 1977 داهمتنا في مكتب الوكالة قوة من رجال مباحث أمن الدولة ، وكلهم بالملابس المدنية ، وعرّف مسؤولهم نفسه لنا ، الرائد فلان ، وبدأ يقرأ الأسماء الأربعة ،وطلب منا مرافقته لسيارة كانت ترافقهم واقفة في الشارع أمام المبنى، وطبعاً فقد امتثلنا!

بعد أن أركبونا السيارة اللوري المصاحبة لسيارتهم الڤان، سألنا الضابط المسؤول عن جوازات سفرنا، ولما أفهمناه أنها في منازلنا ، بدأ في التحرك نحو منازلنا الواحد بعد الآخر ، وطبعاً كان يعرف عناويننا لكي نأخذ الجوازات .

    وفي شارع البطل أحمد عبد العزيز بالمهندسين توقف الموكب من سيارة ڤان وسيارة لوري أمام العمارة التي أسكن في شقة بطابقها الأول ، ودخلت ودخل هو معي، ولكنه كان  يؤدي وظيفته فحسب، دون أي تجاوز .

     التقطت جواز سفري ولم يعترض الضابط بالملابس المدنية على أخذي لقطعتين خفيفتيْ الوزن معي، لأنني كنت قد أعددت جميع متعلقاتي وعائلتي لهذه المناسبة ، ولم يبق شيئٌ خارج الحقائب والصناديق سوى الضروري .

     بكى ولدي البِكْر زياد ، الطفل آنذاك، وأنا أودِّعه ، ودمعت عيناي معه، ولم يتردَّد الضابط حينئذ عن التعاطف ، وبحضور زياد وشقيقه الرضيع مصطفى وأمهما ،وقال بجدية ( أفندم ، نحن نحبكم ، لكنها الأوامر ).

يا الله ، ما أطيب المصريين .

     والمفارقة هي أن الشاحنة التي تقلنا كانت قديمة فلم يشتغل محرّكها بعد صعودي اليها وحيث كان زملائي يجلسون ، وطلبوا منا النزول والمساهمة في دفع الشاحنة لتشتغل، فاشتغلت!

     وبعد أن تمّت المهمة وأصبح جواز سفر كل واحد منا ، معه ، تحرك الموكب نحو وسط القاهرة ، وإذا به يتوقف عند باب جانبي لمجمع  ساحة التحرير وأخذونا الى الطابق ، لا أتذكر ، ربما الثاني ، أو غيره ، في المجمع وأدخلونا غرفة عادية وفي مكتب ملحق تكلم الضابط بالهاتف قائلاً لمن أتصل به (أفندم جماعة الوكالة معنا).

    ويقال إنّ الدوائر الحكومية التي كانت تشغل طوابق المجمع قد انتقلت الى العاصمة الإدارية خارج القاهرة وجرى تحويل المبنى الى فندق كبير وسط العاصمة المصرية.

ومن دون أية إجراءات ، أعادونا مخفورين الى اللوري، والى مطار القاهرة الدولي لتبدأ معاناتنا الحقيقية، بعد أن أدخلونا من طريق خلفي  في غرف واسعة تقع في الطابق الأرضي من مبنى المطار ، وسلَّمونا الى الجهة المسؤولة فيها ، ووجدنا أمامنا من سبقنا الى موقع الحجز هذا : يمنيون وليبيبون وجزائريون وسعوديون !

الساعة أصبحت الآن حوالي السابعة مساء، وقيل لنا إنّنا سننتظر حتى تصل الطائرة العراقية الآتية من بغداد لتُقلّنا في عودتنا إليها، واتضح بعد قليل أنهم ينتظرون طائرتين وليس واحدة لأن طلبة الدفاع الجوي العراقيين الذين يتلقون علومهم في الاسكندرية هم في طريقهم براً الى القاهرة ، وكانوا أكثر  من 40 طالباً عسكرياً يقودهم ضابط من ناحية المعاضيد التابعة لقضاء حديثة بمحافظة الأنبار اسمه محمد المعاضيدي .

   وهل كان يمكننا أن نفعل أيَّ شيءٍ سوى الانتظار الإِجباري؟ أصِبْتُ بنوبة صداع الشقيقة الذي كان يلازمني ، ولكن دون علاج في هذا الحجز بالمطار . وجعنا ونريد لقمة أكل ، لكنْ من دون تجاوب حرس هذا الموقف المحترفين، وجمع بعضنا مبلغاً محدوداً وأعطوه الى أحد الحراس من شرطة المباحث ليشتري لنا سندويشات طعمية وفول ، فذهب ولم يعد!

    في الواحدة بعد منتصف الليل أصعدونا مخفورين الى الطائرة العراقية التي وصلت من بغداد، فلم تتحرك لعطل يحتاج لقطعة غيار من بغداد، فأعادونا الى الحجز ، حتى وصلت قطعة الغيار على الطائرة الثانية القادمة من بغداد.

    وأقلعت الطائرتان فجر اليوم الثاني، الواحدة بعد الأخرى، وجميع  ركابهما من العراقيين المبعدين من مصر، وأنا منهم.

ولدت عام 1942 في محلّة “رخيته” بالكرادة الشرقية في وقتٍ كان فيه الوالدُ عندما يستأجر بيتاً لا نبقى فيه طويلَ وقتٍ، حتى أجبرت العائلة بعد وفاة الوالد في مايس1944 على العودة الى محلة “قهوة شكر بالرصافة .

    لابد من ان يكون عمري حينئذ قد لفت الإنتباه ! . كنتُ ابن عامين عند وفاة الوالد الذي لم يكد جثمانه يوارى الثرى حتى لحقته الوالدة بعدة شهور ، ولكي تكتمل الفاجعة، توفي شقيقنا الأكبر رياض عام 1945 في لبنان ودفن هناك.

    تكفلت جدتنا لأمنا بتربيتنا ، وكنا ثلاثة ، أنا الأصغر بينهم ولم يكنْ لهذه الجدة الفاضلة أي مورد مالي في السنوات الاولى من حياتنا عندها.

   وتفضل نائب رئيس الوزراء علي جودت الأيوبي عام 1954 بتخصيص راتب تقاعدي لنا الثلاثة كان عوناً لجدتنا في رعايتها لنا، حتى عام 1961 عندما أصبح شقيقنا الأكبر ضابطاً في الجيش فانقطع ذلك الراتب التقاعدي لأنه اصبح معيلاً حسب القانون .

 التحقت الجدة مع بناتها اللواتي أصبحن معلمات في قضاء عنه بلواء الدليم، محافظة الأنبار لاحقا ،حوالي عام 1945 وكان من الطبيعي أن تأخذنا معها، وهنالك في هذه البلدة الغافية على ضفاف الفرات قضيت طفولتي وبعض سنوات شبابي، ودرست في مدارسها الابتدائية والمتوسطة.

    وعدنا عام 1961 الى بغداد فالتحقت بالصف الثالث بمتوسطة المثنى ثم بثانوية الاعظمية ،وفي عام 1964 التحقت بقسم الصحافة بكلية الآداب بجامعة بغداد حال افتتاحه لأول مرة في تاريخ العراق.

    وكُنّا أول مجموعة تضم 48 خريجاً درس الإعلام أكاديمياً وتوزعنا على أجهزة الإعلام لكني كنت قد حصلت من خلال علاقاتي الحزبية في صفوف ما كان يسمى البعث اليساري على وظيفة مراسل الوكالة العربية السورية للانباء “سانا” فسافرتُ الى دمشق ووقعت عقد عمل  براتب معتبر لأكون مراسلًا في بغداد.

وبقيت مع “سانا” حتى تشرين الثاني عام 1970 عندما أطاح وزير الدفاع حافظ الأسد بنظام الحكم الذي كنتُ من أنصاره فكتبت استقالتي لألتحق بعد أيام بوكالة الانباء العراقية.

    وهكذا عشتُ مع (واع) كل سنوات حياتي المهنية، وعملت فيها مندوباً ومحرراً ورئيس محررين وسكرتير تحرير ، ومراسلاً في القاهرة أعوام 1976 – 1977 وقد تعرضت للإبعاد من مصر  مع مئات الصحفيين والدبلوماسيين وغيرهم من العراقيين والعرب الآخرين.

    ومن بعد ذلك ذهبتُ إلى الجزائر مراسلاً لواع وقضيت فيها سنتين .

ألتحقت عام 1982 بجامعة أكستر في بريطانيا للحصول على شهادة الدكتوراه وفي عام 1987 عدت الى بغداد بشهادتي العالية.

    وفي مركز (واع) توليت لبعض الوقت مهام رئيس قسم الأخبار الداخلية المسؤول عن كل المندوبين في بغداد وكل مراسلي الوكالة في المحافظات العراقية، ثم أصبحت سكرتير التحرير لقسم المكاتب الخارجية المسؤول عن كل المراسلين في العواصم العربية والأجنبية.

وفي عام 1989 سافرتُ إلى نيويورك مراسلاً لواع لدى الأمم المتحدة وقضيت فيها سنوات لعدم قدرة العراق على استبدالي بسبب قطع العلاقات مع الولايات المتحدة  وحتى  احتلال  العراق في نيسان عام 2003.

   بعدها اشتغلت لبعض الوقت صحفياً في بعثة عربية في نيويورك حتى انتهى عقدي معهم .

   وما أزال أقيم في ضواحي نيويورك مع عائلتي وأبنائي الثلاثة. واتقاضى عن خدمتي في (واع) التي امتدت لحوالي ثلاثين عاماً راتباً تقاعدياً شهرياً  لا يكفي لشراء خبز ويصلني دورياً من بغداد.


مشاهدات 250
الكاتب مليح صالح شكر
أضيف 2025/01/25 - 12:09 AM
آخر تحديث 2025/01/29 - 10:33 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 492 الشهر 14437 الكلي 10294402
الوقت الآن
الأربعاء 2025/1/29 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير