لماذا مدّدت واشنطن العقوبات على دمشق ؟
عبد الحسين شعبان
بعد فرار الرئيس السوري بشار الأسد بأربعة أيام، وبتاريخ 12 كانون الأول / ديسمبر 2024، مدّدت الولايات المتحدة عقوباتها الاقتصادية على سوريا لمدة خمس سنوات جديدة ضمن ما يُعرف بقانون قيصر، الذي شرّعه الكونغرس في العام 2019 بزعم حماية المدنيين من الأعمال الوحشية التي يرتكبها النظام، وهذا يعني أن العقوبات ستبقى مفروضة على سوريا، وهو ما كشفته وثيقة أمريكية رسمية، حيث تم شطب التاريخ الذي هو 5 سنوات بعد سريان مفعول هذا القانون، ليصبح التاريخ الجديد 31 كانون الأول / ديسمبر 2029.
وعلى الرغم من أن الرئيس المنتهية ولايته، جو بايدن، أعلن مؤخرًا تخفيف بعض القيود على سوريا لوصول المساعدات الإنسانية إليها، إلّا أن العقوبات تبقى سارية المفعول حتى بعد التغيير الذي حصل، وبداية نظام جديد أُقيم على أنقاض النظام السابق، فما هي مبررات واشنطن لاستمرار العقوبات؟
الجدير بالذكر أن نظام العقوبات، سواء كان جزئيًا أم كليًا، يثير إشكالات منهاجية ببعدها القانوني النظري أو الإنساني العملاني، وتتضمّن الكثير من جوانب التعقيد المرتبطة بدور القوى المتنفذة في العلاقات الدولية، ومحاولاتها التسيّد وفرض الهيمنة من جهة، ومن جهة أخرى أن تأثير العقوبات يقع على الشعب، حتى وإن ترك تأثيره على الحكام، الأمر الذي يتحوّل بطول المدّة وقسوة الأوضاع المعاشية إلى نوع من أنواع «الإبادة الجماعية»، سواء كانت هذه العقوبات مفروضة من جانب الدول الكبرى، أو من جانب مجلس الأمن الدولي، حيث تبقى سيفًا مسلطًا على رقاب الناس، الذين يتعرّضون إلى التجويع ومحق الكرامة الإنسانية.
قانون قيصر
لا يقتصر قانون قيصر على الحكومة أو النظام السوري السابق، بل أنه يتعرّض لسوريا كدولة وشعب. فالعقوبات التي يفرضها القانون لها أبعادها السياسية، والدليل أن النظام والحكومة زالتا، أمّا العقوبات فهي مستمرّة ولم تُلغَ أو يُعاد النظر فيها، لاسيّما تبعاتها الاقتصادية والمالية والقانونية والاجتماعية والتربوية والنفسية والإنسانية، بما فيها جرح سيادة سوريا وتعويمها، حيث تركت العقوبات تأثيرها الكبير على الشعب السوري، وازداد الفقراء فقرًا، أمّا أركان السلطة والمتنعمين بامتيازاتها، فقد ازدادوا غنًى، خصوصًا في ظلّ الفساد الذي استشرى في البلاد على نحو سريع، وإنتاج المخدرات وتسويقها، وهو ما أظهرته شاشات التلفاز من وجود معامل للكبتاغون بإدارة النظام وإشرافه، ناهيك عن سياسات التسلّط والعسف والعنف والإرهاب، خصوصًا باستمرار النزاع المسلّح منذ العام 2011.
تساؤلات مشروعة
لعلّ التساؤل المشروع الذي يواجه الباحث المعني بعلاقة واشنطن بمشكلات الشرق الأوسط ومنها مستقبل سوريا بما فيه القضية الفلسطينية، هو ماذا تريد الولايات المتحدة من سوريا بعد تغيير النظام السابق؟ فهل كانت واشنطن تستهدف نظام بشار الأسد أم سوريا؟ وهو التساؤل ذاته، الذي ظلّ يتردّد لنحو 12 عامًا في العديد من الأوساط بخصوص العقوبات ضدّ العراق، تلك التي استمرّت الولايات المتحدة بفرضها بالضغط على مجلس الأمن، ناهيك عن تمديدها حتى بعد الإطاحة بنظام صدّام حسين، وما تزال تأثيراتها باقية إلى اليوم.
فعلى الرغم من أن واشنطن تعتبر بغداد حليفة سياسية لها، وهو كثير ما تردّده الأخيرة، ضمن «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، إلّا أن واشنطن من الناحية الفعلية تفرض شروطًا على حليفتها، حيث ما تزال متحكمة بالنفط العراقي، الذي تودع أثمانه في البنك الفيدرالي الأمريكي، وهذا الأخير يتحكّم بتحويل بعضها إلى الحكومة العراقية، الأمر الذي يُعطي واشنطن وصاية عليها، ناهيك عن ممارسة ضغوطها بالشكل الذي يؤمن مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة.
العقوبات والتنمية
وإذا كانت واشنطن تستهدف نظام الأسد، فقد انتهى هذا النظام، فلماذا تُجدد نظام العقوبات على الشعب السوري؟ ومثل هذا التساؤل يحتاج إلى حوار جاد ومسؤول، ليس على الصعيد السوري فحسب، بل على الصعيد العربي، حيث كان البعض متحمسًا لنظام العقوبات ضدّ سوريا بزعم الإطاحة بالأسد، ومن المفيد أن يكون هذا الحوار مشرقيًا، فقد مارست واشنطن الحصار على عدد من الدول النامية، مثلما تمارسه اليوم ضدّ الصين وروسيا وغيرها، تحت عناوين مختلفة.
وبالنسبة لسوريا، فإن فرض العقوبات مجددًا عليها في ظلّ النظام الجديد، بغضّ النظر عن توجّهاته، سيؤدي إلى عرقلة تحقيق التنمية المنشودة، مع المساعي المحمومة للخصخصة والترويج لاقتصاد السوق وأفضليات النظام الليبرالي، وذلك لإنهاء دور القطاع العام، تحت يافطة فشله وارتباطه بالنظام السابق.
طريق التقسيم
قد يكون استمرار نظام العقوبات على سوريا هو جزء من استراتيجية أمريكية وإسرائيلية بعيدة المدى، تستهدف تفتيت سوريا على أمل تقسيمها وفقًا لمشروع برنارد لويس، الذي أقرّه الكونغرس الأمريكي بجلسة سرية في العام 1983، خصوصًا بتعطيل تنميتها، لاسيّما في ظل عدم اكتمال بنية النظام الجديد، والفوضى العارمة التي تشهدها البلاد، وحتى الآن فإن وحدة البلاد مهددة، ولا توجد تطمينات بخصوص حقوق الكرد، والسلم المجتمعي في خطر حقيقي والجيش مفكّك والقدرات العسكرية مدمّرة والتغوّل الإسرائيلي مستمرّ، بل يتمدّد، ليس بالتمسّك بهضبة الجولان فحسب، وإنما عينه على دمشق بعد احتلاله لجبل الشيخ ونحو 25 كم داخل الأراضي السورية.
مهمات كبيرة وعاجلة
إذا كانت مهمة إنهاء نظام العقوبات من المهمات الكبيرة والخطيرة التي تواجه سوريا، فإنها ليست الوحيدة، بل ثمة مهمة عاجلة، وهي منع الانفلات الأمني وتحقيق الانفراج السياسي الحقيقي، ووضع آليات جديدة لحوار وطني شامل دون إقصاء أو تمييز، بالاستناد إلى تعددية المجتمع السوري وتنوّع فئاته دينيًا وقوميًا ولغويًا وسلاليًا وغيرها، وكل ذلك يحتاج إلى استقرار سياسي لتدوير عجلة الاقتصاد وتحسين أوضاع الناس المعاشية.
عدالة انتقالية
لا بدّ من وضع خطوات تدرّجية لتطبيق عدالة انتقالية دون انتقام أو ثأر أو كيدية أو إثارة ضغائن وأحقاد قد تسبب بردود أفعال لا تُحمد عقباها، ولا سمح الله أن تؤدي إلى تحويل سوريا إلى بؤرة صراع مستدامة. والعدالة الانتقالية تتطلّب كشفًا للحقيقة ومساءلةً وجبرًا للضرر لإبقاء الذاكرة حيّة ويقظة، لاسيّما بإطلاق أسماء الضحايا على مدارس وساحات وشوارع ومكتبات ومرافق عامة، إضافة إلى تعويضهم أو تعويض عوائلهم في حالة مفارقتهم الحياة، ماديًا ومعنويًا، وإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية وأجهزة إنفاذ القانون، وصولًا إلى مصالحة وطنية شاملة. ولعلّ الباحث يتوصّل إلى استنتاج مفاده أن واشنطن لا تريد إنهاء نظام العقوبات على سوريا، دون الحصول على مكاسب سياسية، حتى وإن كانت من حليفتها اسطنبول، وعلى الرغم من أن تركيا عضوًا فاعلًا وكبيرًا في حلف الناتو، إلّا أن ذلك لا يمنع من ابتزازات واشنطن ومعها بعض الدول الغربية، التي لا تريد رفع العقوبات دون ثمن تقبضه، بما يتناسب مع مواقفها من سوريا، سواءً قبل هروب الرئيس الأسد أو بعد أن أصبح لتركيا اليد الطولى مع الحكم الجديد في سوريا، خصوصًا بتلاشي الدور الإيراني وضعف الدور الروسي.
باحث ومفكّر